عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    28-Jun-2019

حارات منسية.. أم علي والصَليّة

 كتب: خالد قوقزة

الراي - في حاراتنا المنسية، كانت النساء وكأنهن رجال قولا وفعلا، فلّاحات يحرثّن الارض ويبذرن البذار، وينتظرن الكوانين، ويرفعن أيديهن الى السماء داعيات مع الاولاد والصبايا في حوش القناطر بالحارات العتيقة:
ياالله غيثك يا ربي تسقي زرعنا الشرقي
ياالله غيثك يا دايم تسقي زرعنا النايم
إشتي وزيدي بيتنا حديدي
عمنا عبداالله رزقنا على االله
وعند اول قطرة من مطر السماء ترتسم على وجوههن بسمة (من الشدق للشدق) فالزرع سينبت والموسم سيصبح غِلالا، ودين الدكان سيسدد، ومونة السنة ستؤمن، ومصروف دراسة الولد بالمعهد صار بجيب المدرقة.
عاشة (عائشة) ام على بمدرقتها المخمل، وببوشيتها (الحطة) المعهودة، تلك الأرملة الطيبة. لم تكن الا تلك المرأة التي إرتبطت بالارض ارتباطا وثيقا، وأحبت ارضها كما أحبت ابناءها، فأعطتها فجادت عليها الارض ولم تبخل. كل ذرة تراب ارتوت من عرق جبينها، وكل حجر من حجارة السناسل والقطاعيّات له قصة معها وتفوح منه رائحة عرقها، وبه علامات من أصابع كفيها، وكل شبر من (التلعة والشِعبِه) تجد به اثرا من بلغتها البلاستيكية (حذائها)، وكل غصن وفرع من أشجار تين كرمها ودواليه تشهد على رعايتها للشجر قبل البشر. ولا زالت تفوح من مكان سُكانها(عريشتها) رائحة البركة والخير، وأطلال بوابة عريشتها لا زالت تذكرنا بابتسامتها العريضة حين ترى زوارها ومحببها قادمين اليها للاطمئنان عليها وسماع أحاديث الآباء والجداد وسواليف الحصيد والبيادر، وأخبار خُطّار العنب والتين ما بين كروم الحارات المنسية ودرعا (ذرعاة كما كانت تسميها)، السائرين قبل زقزقة العصافير على دلالة درب التبانة. وتذكرنا بسيجارتها التي إن لم تكن بين شفتيها، تكون بين أصابعها.
في بداية كل صيف تترك أم علي الحارات وترتحل الى كرم العنب والتين، وشكاير الباميا والفاصوليا والبندورة البعلية، وحيث العريشة التي بنتها بذراعها الذي لا يعرف التعب. تلك العريشة التي كانت وكانها ديوان لكل أصحاب الكروم وساكني العُرش ونواطير الكروم، ولكل ضيف وعابر سبيل، فجمر النقرة (الموقدة) دائما ملتهب وجاهز لقلاية بندورة مع قرنين من الفلفل الحار، ولإبريق شاي ثقيل (أكرُك عجم) ولقهوتها الساده. تحتوي عريشتها على مونتها من الطحين والقلية والسليقة والبرغل وشاي الغزالين والقهوة حتى دخّانها (تتن صقط أصفر). ومذياعها الذي كانت تستمع منه على اخبار العالم وتطوراته وأحداثه من (هيئة الإذاعة البريطانية، وصوت العرب ومونتو كارلو) وسماع ام كلثوم حين كانت تشدو بصوتها العذب في كل مساء.
صبيان الكروم كانوا يرونها الأُم التي لم تلدهم، فحبهم لها لا يوصف، فكانت لهم المربية والطاعمة والتي لا تبخل عليهم بشيء، فمطوى فرشاتها كان مخبأ لأصفاط الراحة وباكيتات البسكويت، وملبس المخشرم والجعيجبان، تلك الحلوى التي تزيد من تعلق الصبيان بها وحبهم لأن تكون عريشتها مكان تجمّعهم ولهوهم.
كانت فرحة الصبيان عارمة حين تدعوهم الى عريشتها، فتطلب من البعض تجميع الحطب، ومن البعض الآخر إحضار الرُقّية (حجر يشبه البلاطة واسع وناعم) قائلة لهم : هاتوا يمّه، بدي أساويلكوا صَلية (قرص من الخبز كبير) وتغمسوها بزيت بلدي... فكانت تأتي بالعجينة وتَرُقّها وتخبزها وتضعها على الرُقيّة بعد تسخينها بنار الحطب، وبعدها تغطيها بالصاج وتشعل فوقه الحطب، وبعد الكشف عنها وكأنها قطعة ذهبية تسُر العيون وتجذب رائحتها البطون. فتضع لهم الزيت فياكلون مستمتعين متلذذين، وما يكون على لسانها الا... يا ريته هنا... محل ما يسري يمري.. زيدوا يمّه، أقعدوا مشان تشربوا شاي.
ماتت أم علي رحمها االله، وماتت معها الصلية، وماتت معها الطيبة، وراحت عريشتها، فلم يبقَ منها الا الأطلال، وباقي هوادي النُقرة (أحجار الموقدة) التي تقول: كانت هنا كريمة من كريمات الحارات المنسية، ماكان في جُعبتها او في عريشتها ليس لها، وطيبة من طيبات زمن جميل قد ولّى بلا عودة..