الغد-سوزان مالوني* - (إندبندنت عربية) 16/12/2024
إيران وإسرائيل والتوازن الهش وسط الفوضى
في الثالث من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، ألقى المرشد الإيراني الأعلى، علي خامنئي، خطاباً أمام حشد كبير من المسؤولين الحكوميين والزوار الدوليين في طهران. ومع اقتراب كلمته من نهايتها، انتقل خامنئي إلى الحديث عن إسرائيل؛ عدو الجمهورية الإسلامية اللدود. ومستشهداً بآية من القرآن الكريم، أصر خامنئي على أن الدولة اليهودية "ستموت بغضبها". وذكّر الحضور بأن مؤسس النظام الإيراني الثيوقراطي، روح الله الخميني، وصف إسرائيل بالسرطان. وأنهى خطابه بتوقع قال فيه: "هذا السرطان سيُستأصل بالتأكيد، بإذن الله، على يد الشعب الفلسطيني وقوى المقاومة في جميع أنحاء المنطقة".
بعد أربعة أيام، دوت صفارات الإنذار عند إطلاق صواريخ من غزة باتجاه جنوب إسرائيل. وبعد ذلك اندفع أكثر من 1.000 مسلح فلسطيني ليخترقوا الحواجز الحدودية باستخدام دراجات نارية، وسيارات رباعية الدفع، وقوارب بحرية، ومظلات من الجو. وفي أقل من 24 ساعة، قتل المسلحون 1.180 إسرائيلياً وأسروا 251 آخرين. وكان هذا الهجوم الذي شنته "حماس" وغيرها من الفصائل الفلسطينية، أكثر الأعمال عنفاً ودمويةً ضد اليهود منذ الهولوكوست، وأدى إلى رد عسكري إسرائيلي عنيف قضى على قيادة "حماس"، وأباد آلافاً من مقاتليها، وأسفر أيضاً عن مقتل عشرات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين وتدمير البنية التحتية في غزة.
وعلى الرغم من أن طهران لم تشارك بشكل مباشر في هجوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، إلا أن قادة إيران كانوا متحمسين لاستغلال تداعياته على أمل تحقيق نبوءة خامنئي. في البداية، دخلت إيران الحرب باتباع أسلوبها المعروف المتمثل في التظاهر دبلوماسياً بأنها ضد التصعيد، بينما كانت تحشد ميليشياتها بالوكالة لشن هجمات على إسرائيل. ولكن في الثالث عشر من نيسان (أبريل)، غير القادة الإيرانيون مسارهم، فأطلقوا وابلاً هائلاً من الصواريخ والطائرات المسيرة على إسرائيل، وهو الهجوم الأول من نوعه من الأراضي الإيرانية مباشرة على الأراضي الإسرائيلية.
نجحت إسرائيل بشكل مذهل في العمل مع الولايات المتحدة وشركائها العرب لصد تلك الضربات. ثم ردت على إيران ووكلائها من دون أن تؤدي إلى إثارة مزيد من الهجمات، واحتوت التصعيد. كما أن سقوط نظام بشار الأسد في سورية عزز التفوق الإسرائيلي على إيران. ومع ذلك، يشير التاريخ إلى أن الجمهورية الإسلامية يغلب ألا تستسلم بسهولة. وفي المقابل، سيمثل تحويل الصراع العسكري المباشر بين إيران وإسرائيل إلى أمر طبيعي تحولاً جذرياً مزلزلاً يخلق توازناً غير مستقر على الإطلاق. ومن خلال خفض عتبة تنفيذ الهجمات المباشرة، أدت المواجهات المتبادلة إلى زيادة احتمالات نشوب حرب شاملة بين الدولتين الأقوى في الشرق الأوسط -حرب قد تجر الولايات المتحدة إليها وتترك أثراً مدمراً على المنطقة والاقتصاد العالمي. وحتى لو لم تندلع مثل هذه الحرب، قد تسعى إيران الضعيفة إلى حماية نفسها من خلال الحصول على سلاح نووي، مما قد يؤدي إلى موجة انتشار أوسع للأسلحة النووية. وبالتالي، سيكون منع قدوم هذا المستقبل تحدياً أساسياً للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، الذي يجب أن يستغل ميله إلى إحداث تغييرات غير تقليدية لإبرام اتفاق إقليمي.
قوة صاعدة
لم تكن إيران وإسرائيل دوماً عدوتين لدودتين. في عهد محمد رضا شاه بهلوي، الشاه الذي حكم إيران لعقود من الزمان حتى ثورة العام 1979، عملت طهران على إقامة علاقة أمنية واقتصادية تعاونية ومفيدة للطرفين مع الدولة اليهودية. من جانبهم، سعى القادة الإسرائيليون إلى كسب ود إيران من أجل تخفيف عزلتهم الدولية ومواجهة عداء جيرانهم العرب.
لكن الثورة الإيرانية قلبت تلك العلاقة رأساً على عقب، حيث احتقر حكام إيران الجدد، رجال الدين الشيعة، إسرائيل بشدة. بل إن بعضهم، متأثرين بنظريات المؤامرة المعادية للسامية، اعتبروا إسرائيل دولة معتدية كافرة. (في الواقع، كانت العلاقات بين الشاه وإسرائيل من العوامل التي ساعدت في تأجيج المعارضة الدينية ضد حكمه). وقبل الثورة، في خطبة شهيرة ألقاها في العام 1963 أدت إلى نفيه من إيران، ندد الخميني بإسرائيل باعتبارها عدواً للإسلام والطبقة الدينية الإيرانية. واستمر في تضمين مواضيع مماثلة في جميع خطاباته بعد أن أوصلته الثورة إلى منصب رئيس الدولة.
في ظل قيادة الخميني، دمجت الجمهورية الإسلامية هذه العداوة الأيديولوجية العميقة تجاه إسرائيل مع عزمها على تقويض النظام الإقليمي ومساعدة الشعوب المضطهدة، وبخاصة الفلسطينيين. وبدأت طهران عمليتها هذه بالتدخل في لبنان، الذي كان غارقاً في أتون حربه الأهلية الطويلة عندما أصبحت إيران دولة ثيوقراطية. بعد غزو إسرائيل لبنان في العام 1982، قدمت إيران لمجموعات شيعية لبنانية مثل "حزب الله" المساعدات العسكرية والفنية، وساعدت في تطوير نموذج يُرهب أعداءها من خلال العمليات الانتحارية والاغتيالات واختطاف الرهائن. إضافة إلى ذلك، بدأت طهران في مناصرة القضية الفلسطينية كوسيلة لكسب قلوب وعقول عديد من المسلمين السنة في الشرق الأوسط، الذين لم يكن لديهم سبب آخر للتحالف مع نظام شيعي أصولي.
في البداية، سعت إسرائيل، المعتادة على التعامل مع الشاه، إلى إقامة علاقات سرية مع الدولة الثورية الإيرانية واعتبرتها ظاهرة غير مستقرة ومؤقتة، بل إن المسؤولين الإسرائيليين حافظوا حتى على خط إمداد كبير للأسلحة إلى طهران بعد غزو الرئيس العراقي صدام حسين إيران في العام 1980، على أمل تقوية الزعماء الإيرانيين المعتدلين وإطالة أمد الصراع ضد بغداد. (كان الإسرائيليون يعتبرون العراق تهديداً أكثر خطورة). لكن هذه المحاولة انتهت بشكل سيئ بعد تدخل المسؤولين الأميركيين، الذين سعوا إلى استغلال مبيعات الأسلحة الأميركية إلى طهران، بما في ذلك الأسلحة التي تبيعها إسرائيل، لحث طهران على مساعدتهم في تحرير الرهائن الأميركيين في الشرق الأوسط وتمويل المتمردين الكونترا في نيكاراغوا بشكل سري. وكانت النتيجة فضيحة محرجة لإدارة ريغان وتشدداً إضافياً للنظام الثوري في إيران. على هذا النحو، ساعدت فضيحة إيران كونترا في القضاء على أي أوهام إسرائيلية بأن إيران الثورية كانت ظاهرة مؤقتة أو لا تشكل تهديداً.
لم تكن إيران وإسرائيل عدوين لدودين على الدوام
في المقابل، منحت نهاية الحرب الإيرانية - العراقية في العام 1988 إيران القدرة على تحدي إسرائيل بشكل أكثر جدية. ربما تكون الجمهورية الإسلامية قد خرجت من ذلك الصراع متضررة وفقيرة، لكن القتال ساعد النظام الديني في ترسيخ قبضته على السلطة. كما أن ذلك كان يعني أن الجيش الإيراني كان بحاجة إلى تحديد مهمة جديدة. وحتى بينما كان الإسرائيليون والفلسطينيون يتخذون خطوات مترددة نحو تسوية النزاع وحل الدولتين في تسعينيات القرن العشرين، وسعت طهران استثماراتها في المعارضة العنيفة لعملية السلام ولإسرائيل بشكل عام، وعجلت في إحياء البرنامج النووي الإيراني الذي كان قائماً قبل الثورة.
وعززت الأحداث التي شهدها العقد التالي من قوة النظام الإيراني. فقد أسقطت التدخلات العسكرية الأميركية في أفغانستان والعراق، اثنين من أبرز خصوم طهران، هما "طالبان" وصدام حسين، مما أعطى إيران مساحة أكبر للمناورة. وهذه العمليات الأميركية زادت من حالة جنون الارتياب في طهران بشأن محاولة واشنطن شل الجمهورية الإسلامية، الأمر الذي أدى إلى إشعال عزيمة النظام على طرد القوات الأميركية من المنطقة. وكانت النتيجة أن إيران أصبحت أكثر قدرة واستعداداً لتسليح شبكتها من الوكلاء، بما في ذلك من خلال تزويد المقاتلين الفلسطينيين بالأسلحة.
خلال الفترة ذاتها، بدأت طموحات إيران النووية تتضح بكامل نطاقها. في العام 2002، كشفت إحدى جماعات المعارضة الإيرانية عن مواقع نووية لم يُعلن عنها من قبل، كانت مخصصة لإنتاج وقود يمكن استخدامه لصنع الأسلحة، مما يعد انتهاكاً لالتزامات طهران بموجب معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية. بالنسبة إلى إسرائيل وروسيا والولايات المتحدة والقوى الكبرى الأخرى، أكدت هذه الاكتشافات أن النظام الثيوقراطي كان يطور البنية التحتية للحصول على أسلحة نووية وربما نقلها إلى وكلائه وشركائه. في نهاية المطاف، أحالت الوكالة الدولية للطاقة الذرية القضية إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، مما أدى إلى فرض مجموعة غير مسبوقة من العقوبات الاقتصادية المتعددة الجنسيات على إيران.
وقد أثرت هذه القيود على موارد طهران المالية، لكنها لم تعطل صعودها الإقليمي الذي عززه الربيع العربي في العامين 2010 و2011. في البداية، شكل انتشار الثورات والحروب الأهلية في الشرق الأوسط تحدياً للجمهورية الإسلامية، بخاصة عندما هددت الاضطرابات أحد أهم شركائها، بشار الأسد. ولكن بمساعدة "حزب الله" وروسيا، تمكنت إيران من دعم الأسد لأكثر من عقد من الزمان. ومن خلال تحسين موقعها في سورية، استطاعت طهران أيضاً ضمان بقاء "حزب الله" القوة المهيمنة في لبنان، وتوسيع ترسانته من الصواريخ والقذائف الموجهة الدقيقة والوسائل اللازمة لإنتاجها. كما استغلت إيران الفوضى الإقليمية المتزايدة، مثل الحرب الأهلية في اليمن، لتوسيع نطاق نفوذها وتعزيز قدرات شركائها. وبحلول نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كانت طهران قد طورت قدرتها على ممارسة قوتها في جميع أنحاء الشرق الأوسط وتنسيق شبكتها من الميليشيات.
اللعب بالنار
راقبت إسرائيل بحذر نمو قدرات إيران. ولكن، على مدى سنوات، وعلى الرغم من تهديدات عدة، تجنبت مهاجمة البلد بشكل مباشر. ونجحت إدارة أوباما في ثني رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، عن شن ضربات على البرنامج النووي الإيراني في العام 2012. وفي وقت لاحق، وقعت طهران وواشنطن وخمس قوى عالمية أخرى اتفاقاً للحد من البرنامج النووي الإيراني في العام 2015، على الرغم من الضغوط الشرسة التي مارسها الزعماء الإسرائيليون.
عوضاً عن اللجوء إلى العمل العسكري المباشر، اكتفت إسرائيل ببدائل مبتكرة وفعالة نسبياً من خلال العمليات السرية والهجمات الإلكترونية، وكذلك تخريب منشآت نووية إيرانية رئيسة. كما اغتالت علماء نوويين وضباطاً عسكريين، وسرقت سجلات أرشيفية أظهرت الحجم الحقيقي للأنشطة النووية الإيرانية التي حاول النظام إخفاءها. ولعل الأمر الأكثر أهمية هو أن إسرائيل أنشأت شبكة استخبارات قوية أبقت النظام الإيراني في حالة من الارتباك.
علاوة على ذلك، سعت إسرائيل إلى زيادة الضغط على إيران من خلال مهاجمة حلفاء طهران بشكل مباشر وضرب مواردها خارج البلاد. وما بدأ في العام 2013 كقصف انتهازي محدود لخطوط إمداد "حزب الله" داخل سورية، تحول بحلول العام 2017 إلى حملة عسكرية منهجية ضد أصول إيران ووكلائها في جميع أنحاء المنطقة. وقد حققت هذه الحملة نجاحات كبيرة، بما في ذلك سلسلة من الضربات في صيف العام 2019 استهدفت مستودعات أسلحة إيرانية في العراق، ومنشآت إنتاج صواريخ في لبنان، ومقاتلين مدعومين من إيران في سورية. ولكن من خلال البقاء ما دون العتبة التي قد تثير رداً انتقامياً إيرانياً، فشلت إسرائيل في إلحاق هزائم حاسمة بـ"حزب الله" أو إيران.
وتزامن تصعيد إسرائيل في إيران وسورية مع ولاية ترامب الأولى، إذ تبنت واشنطن موقفاً أكثر قسوة تجاه الجمهورية الإسلامية. وقد انسحب ترامب من الاتفاق النووي الإيراني في العام 2018 وفرض ما أسماه عقوبات "الضغط الأقصى" الاقتصادية على إيران، على أمل انتزاع تنازلات بعيدة المدى. ويقدم رد إيران مثالاً على حساباتها الحذرة. ففي العام الأول من تلك العقوبات، أظهر القادة الإيرانيون ضبطاً للنفس بشكل ملحوظ، لكنهم سرعان ما غيروا استراتيجيتهم بشكل جذري وشنوا سلسلة من الهجمات المضادة، بما في ذلك الهجمات على سفن الشحن في الخليج العربي ومنشآت النفط السعودية. ولم يكن ذلك عنفاً عشوائياً عبثياً: كان القادة الإيرانيون يأملون في أن تغير المواجهة حسابات واشنطن بشأن الكلفة والفائدة وتدفعها إلى إنهاء حملة "الضغط الأقصى". ولم ينجحوا في ذلك، لكن هذه المناورة، من وجهة نظر طهران، لم تفشل تماماً. بالنسبة لإيران، أفضل وسيلة للدفاع غالباً ما تكون الهجوم الجيد. وقد أظهرت أفعالها العدوانية للعالم أن النظام مستعد لفرض تكاليف حقيقية على الدول التي تتحداه.
تكشف التبادلات الأخيرة للضربات بين إيران وإسرائيل عن منطق مشابه، حيث دفعت الحرب بين الدولتين إلى مرحلة جديدة. فبعد أن قصفت إسرائيل مبنى ملحق بالسفارة الإيرانية في سورية في نيسان (أبريل)، شنت إيران هجومها المباشر غير المسبوق، فأطلقت أكثر من 350 صاروخاً باليستياً وصواريخ كروز وطائرات مسيرة مباشرةً على عدوها. وكان هذا الهجوم، على غرار الهجمات السابقة، محسوباً ومصمماً بوضوح لإيصال رسالة. كانت إيران، قبل كل شيء، قد أبلغت عنه قبل وقت طويل من تنفيذه. وتمكنت إسرائيل من صد القصف الإيراني بفضل المساعدة الكبيرة من الجيران. لكن وابل الصواريخ والطائرات المسيّرة المنسق لم يكن مجرد استعراض. فقد أشار الرائد بنيامين كوفي؛ أحد طياري سلاح الجو الأميركي الذين ساعدوا في إحباط الهجوم الإيراني، إلى أن "هذا لم يكن هجوماً محدود النطاق أو مجرد تصرف استعراضي للتباهي وإبراز القوة، بل كان هجوماً مصمماً لإحداث أضرار كبيرة، وللقتل والتدمير".
تسبب موت الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في حادث طائرة مروحية في أيار (مايو) 2024 في تشتيت انتباه النظام الثيوقراطي لفترة وجيزة، وبدا أن الحادث أوقف دوامة التصعيد. ولكن لم يمض وقت طويل قبل أن يعود الصراع ليشتعل مرة أخرى. في آب (أغسطس)، اغتالت إسرائيل الزعيم السياسي لحركة "حماس"، إسماعيل هنية، في دار ضيافة إيرانية تابع للحرس الثوري الإيراني في طهران، بعد ساعات قليلة من لقاء هنية بخامنئي وحضوره مراسم تنصيب الرئيس الجديد للبلاد، مسعود بزشكيان. وبعد أقل من شهرين، صعّدت إسرائيل هجماتها على لبنان، فدمرت عقوداً من الاستثمار الإيراني في "حزب الله" بطريقة مفاجئة ومهينة. وعبر التحكم عن بعد، فجرت إسرائيل عبوات صغيرة كانت قد زرعتها سراً في الآلاف من أجهزة البيجر التي يستخدمها عناصر "حزب الله"، مما أدى إلى تعطيل سيطرة الحزب وتحكمه. ثم قتلت القوات الإسرائيلية تقريباً جميع قادة "حزب الله" البارزين، بمن فيهم أمينه العام منذ مدة طويلة، حسن نصر الله، ودمرت جزءاً كبيراً من أسلحة المجموعة.
في الواقع، لم يسفر هذا الهجوم عن إضعاف "حزب الله" وحده، بل أيضاً إيران. على مدى أكثر من أربعين عاماً، كان "حزب الله" بمثابة الورقة الرابحة لطهران: أول مشروع لها ونواة شبكتها الواسعة من الشركاء والوكلاء. وكان الهدف من ترسانة صواريخ الحزب أن تكون خط الدفاع الأول لإيران. وكان شل مثل هذه الأداة الرئيسة، حتى ولو مؤقتاً، سبباً في تقويض مكانة إيران وقوتها في المنطقة بشكل خطير. وكان فقدان نصر الله مدمراً بشكل خاص لقيادة إيران. فقد عرف نصر الله وخامنئي بعضهما بعضا منذ الأيام الأولى لـ"حزب الله". وكان نصر الله يتحدث الفارسية، وعاش لفترة في إيران، وكان الشخصية الرئيسية الوحيدة في المنطقة التي اعتبرت المرشد الأعلى لإيران مرشدها الروحي.
لذلك، كان من المتوقع تماماً، وربما الحتمي، أن ترد طهران على مقتله باستخدام القوة، مثلما فعلت بإطلاقها وابلاً آخر من الصواريخ في الأول من تشرين الأول (أكتوبر). ولكن مرة أخرى، حالَت الاستعدادات والتنسيق بين الولايات المتحدة وإسرائيل دون وقوع ضحايا أو أضرار مادية جسيمة. وبعد فترة قصيرة من الترقب، نفذت إسرائيل مجموعة ماهرة وفعالة من الضربات التي أضعفت بشكل كبير الدفاعات الجوية الإيرانية وبرنامج الصواريخ والطائرات المسيرة، إضافة إلى البرنامج النووي، من دون أن تثير أي رد انتقامي. وقد أدت هذه الضربة، إلى جانب الانهيار اللاحق لحكومة الأسد الوحشية، إلى تدمير استراتيجية إيران الإقليمية الحالية.
الرغبة في التدمير
في الوقت الحالي، منحت الهجمات المباشرة بين إيران وإسرائيل الأخيرة ميزة تفوق واضحة. فقد تراجعت قدرات إيران الدفاعية والهجومية على حد سواء. وتبدو إسرائيل، بعد فشلها الكارثي في السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، أقوى من أي وقت مضى. ومن خلال حشد بعض دول الإقليم لمساعدتها في صد الهجوم الإيراني في نيسان (أبريل)، أثبت الإسرائيليون أن بعض دول الإقليم مستعدة للانضمام إلى الدولة اليهودية في ردع إيران، على الرغم من التعاطف الكبير مع الفلسطينيين بين الشعوب العربية.
مع ذلك، تواجه إيران وإسرائيل، والمنطقة ككل، مأزقاً صعباً. فعلى الرغم من أن إسرائيل حققت انتصاراً كبيراً، إلا أن القادة الإيرانيين والإسرائيليين يعتقدون أن التهديد الذي يشكله الطرف الآخر ما يزال وجودياً وراسخاً. وفي مواقفهما العامة وخطاباتهما العلنية، تسعى الحكومتان إلى تصوير الطرف الآخر على أنه في وضع حرج. فبعد الضربة الإسرائيلية على إيران في تشرين الأول (أكتوبر)، تباهى نتنياهو قائلاً: "تتمتع إسرائيل اليوم بحرية عمل أكبر في إيران من أي وقت مضى. يمكننا الوصول إلى أي مكان في إيران حسب الحاجة". أما بالنسبة لخامنئي، فإن انتكاسات وكلاء إيران لا تعني شيئاً؛ ووفقاً له، فإن "حماس" و"حزب الله" منتصران بمجرد نجاتهما وصمودهما، وتدمير إسرائيل مجرد مسألة وقت. وقال في أوائل تشرين الثاني (نوفمبر): "سيرى العالم والمنطقة بوضوح اليوم الذي سيهزم فيه الكيان الصهيوني".
بالنظر إلى خسائر إيران وهشاشتها المتزايدة في الداخل أخيراً، قد يكون هذا الموقف مجرد تبجح وتظاهر بالشجاعة. وإذا كانت طهران جادة، فربما يرتكب قادتها خطأ فادحاً في التقدير. ومع ذلك، على مدى السنوات الخمس والأربعين الماضية، نجحت القيادة الإيرانية في تجاوز العديد من النكسات الكبيرة بمرونة مدهشة. وأحد أسرار نجاح النظام هو ميله إلى تبني العدوان عند التعرض للضغط، أما الثاني، فهو استعداده لممارسة ألعاب السياسة بنفس طويل، من خلال التراجع أو تغيير الاستراتيجية عند الضرورة، واستخدام موارده وعلاقاته المحدودة بشكل مبتكر، والانخراط في هجمات غير متكافئة للتأثير في خصوم أكثر قوة. وقد يفعل ذلك مرة أخرى اليوم.
فلنراجع سجل الأحداث. في كانون الثاني (يناير) 2020، اغتالت إدارة ترامب قاسم سليماني، قائد فيلق القدس الإيراني، جناح الحرس الثوري الإسلامي الإيراني المسؤول عن إدارة العلاقات مع حلفاء إيران ووكلائها. وبدا الاغتيال في البداية كارثة رمزية وعملياتية لطهران، نظراً للدور الحيوي الذي لعبه سليماني في السياسة الخارجية الإيرانية. ومع ذلك، لم يكن لمقتله تأثير دائم على قوة محور المقاومة الإيراني أو متانته أو كفاءته. وعلى نحو مماثل، عندما قتلت إسرائيل عباس الموسوي، زعيم "حزب الله" آنذاك، في العام 1992، مهد ذلك لصعود حسن نصر الله، الذي أثبت أنه خصم أكثر فعالية وفتكاً. وبعد شهر، رد "حزب الله" بتنفيذ تفجير دموي استهدف السفارة الإسرائيلية في الأرجنتين.
في الواقع، تعد تصفية أصول طهران الأكثر قيمة، مثل "حزب الله" ونظام الأسد، خسارة كارثية للجمهورية الإسلامية. لكن إيران ضعيفة لا تعني بالضرورة إيران أقل خطورة. ففي تشرين الثاني (نوفمبر)، أعلن حسين سلامي، قائد الحرس الثوري الإيراني، في رسالة إلى الإسرائيليين: "إيران تحدق في أعينكم وستقاتلكم حتى النهاية". وأضاف: " لن نسمح لكم بالسيطرة على مصير المسلمين. ستتلقون ضربات مؤلمة، استمروا في انتظار الانتقام". وقد يبدو هذا التهديد مجرد تهويل إيراني مألوف، إلا أن الافتراض بأن انتكاسة استراتيجية كبيرة ستجعل إيران تستكين وتهدأ سيكون خطأ لا يتماشى مع ما تقوله السوابق التاريخية.
هناك مؤشر آخر على أن إيران قد تتخذ خطوات تصعيدية للتعويض عن نقاط ضعفها الجديدة. لأول مرة منذ عشرين عاماً، بدأت أصوات بارزة داخل البلاد تطالب بتبني خيار السلاح النووي. في الماضي، ألمح عدد من المسؤولين الإيرانيين البارزين، بمن في ذلك وزير خارجية سابق ورئيس سابق لمنظمة الطاقة الذرية الإيرانية، إلى أن إيران تمتلك القدرة على تصنيع سلاح نووي لكنها اختارت عدم القيام بذلك. ولكن في تشرين الثاني (نوفمبر) 2024، صرح وزير الخارجية الإيراني، عباس عرقجي، بأن هناك مسؤولين مؤثرين في النظام يرون أن الامتناع عن هذا الخيار يعد انهزامياً. كما طالب المتشددون في البرلمان الإيراني، خامنئي، بإعادة النظر في قراره الفقهي الذي يحظر تطوير الأسلحة النووية. وإذا تغيرت قواعد اللعبة بعد أحداث السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، فمن المحتمل أن تتغير عقيدة إيران الدفاعية أيضاً. ومن الممكن أن تؤدي عدائية إدارة ترامب، ودعمها لإسرائيل بلا قيود، إلى تسريع جدول إيران الزمني النووي ودفعها إلى تبني التسلح النووي علناً، وهو ما حاولت طهران تجنبه لعقود.
عامل الفوضى
ستتولى إدارة ترامب الثانية السلطة عازمة على التعامل بصرامة مع طهران، تماماً مثلما فعلت إدارته الأولى. في الواقع، أعطى فريقه القادم وعوداً بتكثيف الضغوط الاقتصادية على الجمهورية الإسلامية. وحذر الرئيس المنتخب الإيرانيين، قائلاً: "سأفجر مدنكم الكبرى وأنسف بلادكم نسفاً كاملاً"، إذا سعوا إلى اغتياله، وفق تقارير صادرة عن العديد من وسائل الإعلام.
وفي الوقت نفسه، انتقد مستشار الأمن القومي القادم، مايك والتز، الرئيس جو بايدن، لفرضه قيوداً على إسرائيل أثناء مواصلة حربها في غزة. وخلافاً لإدارة بايدن، قد لا يهتم فريق ترامب كثيراً بالتداعيات المحتملة الناجمة عن المحاولات المستمرة لإضعاف قدرات الحوثيين في اليمن والميليشيات الشيعية في العراق. وإذا كان الأمر كذلك، فقد تتجه المنطقة نحو مزيد من إراقة الدماء. وإذا قررت إسرائيل أو الولايات المتحدة التصعيد في العراق واليمن، فقد يؤدي ذلك إلى زعزعة استقرار العراق ودفع الحوثيين إلى استهداف شركاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. ومن شأن ذلك أن يعقد خطط تقليص وجود القوات الأميركية في العراق تدريجاً ويخلق فراغاً خطيراً في السلطة في قلب العالم العربي، قد تسعى طهران وغيرها من المتطرفين إلى استغلاله. وقد يتفاقم الوضع أيضاً بسبب عدم اليقين بشأن مستقبل لبنان وسورية. ومع ذلك، قد تثبت سياسة ترامب أنها أكثر ذكاء ودقة من نهج المواجهة الثابتة والمستمرة. بادئ ذي بدء، ستجد الإدارة الجديدة أن الأدوات المتاحة لها أقل فعالية مما كانت عليه عندما استخدمها ترامب خلال ولايته الأولى. على سبيل المثال، نجحت عقوبات الضغط الأقصى التي فرضها في خفض صادرات نفط إيران وعائداتها بفضل تعاون الصين، وهو ما قد لا تكون بكين مستعدة لتكراره. كما أن شبكات التهريب التي تسمح للنفط الإيراني بالوصول إلى الصين ازدادت تطوراً، وأصبح من الصعب مواجهتها عبر العقوبات وحدها. وعلاوة على ذلك، قد يواجه أي إكراه اقتصادي جديد رياحاً معاكسة من حلفاء واشنطن الخليجيين، الذين يفضل قادتهم الآن التعايش مع طهران بدلاً من مواجهتها.
وهناك أيضاً آراء ترامب الخاصة بشأن إيران. فقد أشار الرئيس المنتخب إلى أن أسلوبه الذي يبدو فوضوياً وجنونياً يحمل في طياته منهجية مقصودة، وأنه يرغب في التوصل إلى اتفاق. وخلال حملته الانتخابية في العام 2024، نفى ترامب دعمه لتغيير النظام، وأعلن أنه يريد لإيران "أن تكون دولة ناجحة للغاية". وألمح أخيراً إلى أنه لو فاز في العام 2020، لأبرم اتفاقاً مع طهران "في غضون أسبوع واحد بعد الانتخابات". ويبدو أن ترامب أعطى الضوء الأخضر للحوار المبكر مع المسؤولين الإيرانيين هذه المرة، بعد أن أرسل أحد أقرب المقربين منه، الملياردير إيلون ماسك، للقاء سفير إيران لدى الأمم المتحدة في تشرين الثاني (نوفمبر).
من المؤكد أن الإدارة الجديدة ستتبنى نهجاً متساهلاً تجاه الطموحات الإقليمية الإسرائيلية. لكن ترامب يقول أيضاً إنه يريد إنهاء الحرب في غزة وتوسيع "اتفاقات أبراهام" من خلال إضافة السعودية. وهو يريد أن يتجنب مزيداً من الالتزامات العسكرية الأميركية، وأن يخفض أسعار الطاقة، وأن يجعل الصين أكثر طاعة، وأن ينهي البرنامج النووي الإيراني. وهذه الأهداف تتطلب تنازلات صعبة، وسوف تستلزم استراتيجية أكثر تعقيداً من مجرد مهاجمة إيران ووكلائها.
إذا أخذنا من الماضي بعض العبر، فمن المرجح أن يكون نهج ترامب المقبل مدمراً للغاية، خاصة وأن بعض أهدافه متعارضة بطبيعتها. قد لا يبدو هذا أفضل طريقة للاستقرار في الشرق الأوسط. ومع ذلك، ربما تكون هذه هي اللحظة المناسبة لاستخدام الفوضى غير التقليدية وغير المتوقعة وغير المقصودة التي يبدو أنها تأتي مع رئاسة ترامب. في الواقع، قد تنجح واشنطن البارعة، غير الملتزمة بأي مبادئ أو توقعات، في استخدام القوة الأميركية جنباً إلى جنب مع ولعها الواضح بإبرام الصفقات. ومن الجدير بالذكر أن طموحات ترامب الكبرى ومقاربته المعاملاتية القائمة على الصفقات في السياسة الخارجية مناسبة بشكل مدهش للشرق الأوسط اليوم، حيث تعد مصالح الأنظمة والاستثمارات الانتهازية لغة التواصل المشتركة.
لكي ينجح ترامب، سوف يتعين عليه التعامل مع وجهات نظر موظفي إدارته وأولوياتهم المتنافسة. لكن التقييم غير العاطفي للمشهد الإقليمي يقدم فكرة عن خطوات ترامب المحتملة. وقد يبدأ، مثلما فعل في ولايته الأولى، من الخليج. ترغب دول الخليج بشدة في إنهاء الحرب في غزة، وهو ما قد يخدم مصالحها الاقتصادية والأمنية فضلاً عن مصالح إسرائيل. وكانت الإمارات العربية المتحدة تجري مناقشات مع واشنطن حول المساعدة في إنشاء حكومة فلسطينية بعد الحرب في غزة والحصول على تمويل للأمن وإعادة الإعمار. ويمكن لترامب أن يواصل هذه المحادثات ويستخدمها للمساعدة في إنهاء حرب إسرائيل. ويمكن لدول الخليج أيضاً أن تساعد ترامب في التوصل إلى اتفاق جديد مع إيران. فلدى كل من السعودية والإمارات العربية المتحدة قنوات اتصال قوية مع طهران، يمكن أن يستفيد ترامب منها. ومن المؤكد أن العالم العربي سيرحب باتفاق يمنع حرباً شاملة قد تؤدي إلى عواقب كارثية.
هذا الالتقاء في المصالح مفيد، ولكنه غير كافٍ لتحقيق النتائج التي يرغب فيها ترامب. وهنا قد تكون تقلبات الرئيس المنتخب وقسوته بمثابة ميزة غير متوقعة. وإذا أعاد ترامب فرض ضغوط اقتصادية فعالة على إيران ومنح إسرائيل بعض الحرية الإضافية للتحرك عسكرياً، فقد يُظهِر بشكل أفضل قدرات الولايات المتحدة، وبالتالي يجبر إيران على تغيير مواقفها السياسية الحالية غير المرنة. لقد حقق النهج الأميركي القوي نتائج مثمرة في الماضي مع قيادة إيرانية يهمها في المقام الأول بقاء النظام. ومن المرجح أن يمثل نهج من هذا النوع تحسناً مقارنة بنهج إدارة بايدن، التي اعتمدت بشكل شبه حصري على المصالحة والتهدئة، الأمر الذي اعتبرته إيران دليل ضعف ويأس. وقد تتمخض هذه النقلة عن صفقة القرن الحقيقية المتمثلة في تخفيف الصراعات متعددة الجبهات المستعرة في الشرق الأوسط، وفتح الآفاق السياسية، وإعادة الإعمار للفلسطينيين واللبنانيين، وبعض التنازلات الشكلية من طهران بشأن برنامجها النووي وسلوكها الإقليمي.
ومع ذلك، سيكون تحقيق هذه الصفقة صعباً للغاية. فدبلوماسية ترامب غير التقليدية خلال ولايته الأولى لم تُفلح مع قوة نووية أخرى عنيدة، هي كوريا الشمالية، ولم تحقق إدارته سوى القليل من الإنجازات في التعامل مع القوى المعادية. وحتى في حال التوصل إلى اتفاق، فمن غير المرجح أن يدوم طويلاً، إذ إن القيادة الإيرانية غارقة في العداء تجاه كل من إسرائيل والولايات المتحدة. وكانت استثمارات النظام في برنامجه النووي وشبكة وكلائه أساسية لاستراتيجية صموده وبقائه. ومن جهته، وجد نتنياهو أن النهج العسكري المتطرف يحقق فوائد استراتيجية كبيرة إلى جانب مكاسب سياسية داخلية. وفي الحقيقة، لا تخلو هذه المنطقة المشتعلة من مفسدين آخرين.
ولكن حتى مجموعة من التفاهمات العابرة قد تعمل على تهدئة التوتر في الشرق الأوسط. وسيتيح ذلك لواشنطن والعالم تحويل تركيزهما إلى تحديات أكثر صعوبة، مثل الصين وروسيا على وجه الخصوص. وأي صفقة تخفف بعضاً من إراقة الدماء وتقلل بعضاً من المخاطر، ولو مؤقتاً، قد تمنح ترامب جائزة نوبل للسلام التي يصبو إليها بشغف.
*سوزان مالوني: نائبة الرئيس ومديرة "برنامج السياسة الخارجية" في "معهد بروكينغز". المقال مترجم عن "فورين أفيرز"، حيث نشر في 10 كانون الأول (ديسمبر) 2024.