عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    23-Sep-2020

سنحتاج أعمارا كثيرة!*موفق ملكاوي

 الغد

أشركني أصدقاء ومعارف كثيرون بعشرات مجموعات واتس آب. ولأنني أخجل منهم، فإنني لم أغادر تلك المجموعات، وبقيت منتميا إليها بحكم علاقة الاحترام التي تربطني بأولئك الأصدقاء والزملاء والمعارف.
إشراكهم لك في تلك المجموعات يشبه أن تتواطأ على سر تافه، غير أنك تقسم أغلظ الأيمان بأن لا تفشيه. لذلك، تبقى منتميا إليهم، وأنت تضحك في سرك، وتتساءل عن الأسباب التي جعلتهم متأكدين بأنك سوف تهتم بالموضوعات التي يطرحونها!
المجموعات متنوعة لدرجة الهستيريا. بعضها يدعي أنه ثقافي، وأخرى تبحث في الماورائيات بجدية تحسد أعضاءها عليها. آخرون يناقشون القوانين التي تحد من تمكين المرأة، وأسئلة حول العدالة والإنصاف، أو مجموعات تبحث في التشريعات التي لا تدري شيئا عن معظمها، فيما مجموعة أخرى مميزة لدي مغرمة بإعجازات الرياضيات وبالألغاز وبالمعادلات الرياضية غير المحلولة حتى اليوم، ولعلهم أضافوني إليها توسما في أنني ربما أكون قادرا على حل بعضها، وتسجيل إنجاز إنساني يتحدث عنه التاريخ إلى الأبد، وهم لا يعرفون أنه يعييني جمع رقمين من خانتين مفردتين!!
وهناك أيضا أكثر من ألف رقم مفرد آخر على أجندة هاتفك، ومدرجة عبر تطبيق واتس آب، يبعث لك منهم 10 % يوميا على الأقل لأمور مختلفة. بعضها مهم جدا، وأخرى قليلة الأهمية، لكن أكثريتها لأسباب تافهة لا تستحق عناء فتحها وقراءتها.
المسألة ليست بالبساطة التي تبدو لكم، فلا تحكموا على كلامي بأنه عديم الأهمية، خصوصا حين تعلمون أنني أصحو صباحا لأجد أكثر من 100 رسالة جديدة على واتس آب تنضاف لأسباب المعاناة والشقاء الخاصة بي.
أتحدث هنا عن تطبيق واحد فقط، فإذا أصفنا إليه بريدين إلكترونيين لعملين مختلفين، ومسنجر فيسبوك، والرسائل العادية على الهاتف، وبريد إلكتروني شخصي، وعشرات المكالمات اليومية، فسيكون الأمر حينها صعبا جدا، وغير مطاق، خصوصا أن لديك أعمالا أخرى تؤديها، أكثر من تصفح انثيالات وتهويمات لأشخاص ربما كانوا مخمورين وقت إرسالها!
أعلم أن كثيرين سوف يفرحون حين يتلقون هذا السيل الكبير من الرسائل على مختلف مواقع التواصل، فبالتالي يمكن أن يفهرس الأمر على أنه نوع من الاهتمام. ربما يكون هناك أشخاص يحتاجون مثل هذا الاهتمام، والذي بظني لن يمثل أي علاج لهم، بل سيفاقم أمراضهم الاجتماعية ويزيد من عزلتهم عن محيطهم الحقيقي. لكنني، وباختصار، لست بحاجة لمثل هذا العلاج الوهمي.
الأمر ليس كذلك بالنسبة لشخص مثلي، يصحو قبل السادسة صباحا، ويضطر لترتيب أموره ساعة على الأقل قبل أن يستقل التاكسي مسافة 12 كيلومترا إلى عمله الأول الذي لا ينتهي قبل 3:30 عصرا، ثم يغادره متوجها إلى عمله الثاني الذي يضطر إلى البقاء فيه إلى ما بعد منتصف الليل أحيانا، دافعا ضريبة أن يكون رب أسرة يجب أن يوفر لها متطلباتها الأساسية، وأيضا بعض أسباب الرفاه.
لست أمارس أي نوع من الاحتجاج السلبي هنا، ولا أمثل دور الضحية، ولكنني أحاول التأشير الى «ثقافة» انتشرت اخيرا، وهي لا تراعي أي خصوصية للأشخاص الذين لا يمكن أن تتشابه ظروفهم وأوقات فراغهم، أو حتى لا يتشابهون في مدى رغبتهم بالتورط بالعلاقات الاجتماعية، فبعضهم يريد أن تكون تلك العلاقات محددة إلى أبعد حد، لأنهم لا يكونون مرتاحين عندما يندرجون في علاقات مفتوحة غير محددة بضوابط ومساحة للتلاقي والحديث.. وأنا من هؤلاء.
المسألة لا تتعلق بالاعتلالات الاجتماعية، بل بعدد المعارف الذين تريد لهم أن يطلوا على حياتك، أو أولئك الذين تريد أن تكون مكشوفا أمامهم، بكل ما تحمله من فضائل أو نواقص أو كرامات!
يكفينا فيسبوك ومدى إيغاله في انتهاك خصوصياتنا، ورغبتنا أحيانا في أن نشارك الآخرين من خلاله حزننا وإحباطاتنا وخذلاننا. يكفينا ذلك. لا تحولوا واتس آب لساحة أخرى للندب والإحباط وانكسار النفوس والأحلام وتحطم الآمال. لقد مللنا من كل الأسطوانات المشروخة التي تحاولون إدراجنا فيها.
نصحو صباحا، ونحن ننتظر رسائل من أحبة لا تجيء كما نتخيلها، بينما تصفعنا مئات الرسائل التي لا ننتظرها. خلطة غريبة من الهواجس والاهتمامات والأمراض التي نتمنى أن لا نتعرف عليها أبدا.
أرجوكم، ارحمونا من جنونكم وأمراضكم، فنحن نمتلك جنوننا وأمراضنا الكافية لأن نعيش في عذاباتها. إن قررنا أن نتابع جميع ما ترسلونه لنا، فسنحتاج إلى أعمار كثيرة جدا.. وللأسف نحن لا نمتلكها!