عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    25-Jul-2020

قراءة في كتاب «إسدود قلعة الجنوب» لأحمد حسن جوده

 

 د. عادل علي جوده
الدستور- يقع كتاب «إسدود قلعة الجنوب» في (295) صفحة من الحجم المتوسط، وهو عبارة عن دراسة تاريخية اجتماعية اقتصادية سياسية، والحقيقة أن الكتاب بما اشتمل عليه من معلومات ثرية يعد من أمهات الكتب التي تناولت بلدتنا الغالية إسدود؛ وهي من الأراضي المحتلة عام 1948م، بل ويعد مرجعاً مهماً يستند إليه الباحثون وطلبة العلم، وقد اتسم بدقة التفاصيل وشموليتها، ويسرني ههنا أن أقدم للقارئ الكريم قراءة سريعة لهذا الكتاب الذي صدر عام 2013م عن «مكتبة سمير منصور للطباعة والنشر والتوزيع» في غزة بفلسطين الحبيبة.
ولعلي أبدأ بسطور موجزة أقتبسها من الغلاف الخلفي للكتاب، عن صاحب هذا الإصدار الثري، فهو الدكتور أحمد حسن جوده، المولود في بلدة إسدود عام 1932م، والحاصل على ليسانس آداب/تاريخ من جامعة القاهرة (1955م)،  وعلى درجة الماجستير من جامعة تكساس/أوستن (1964م)، وعلى الدكتوراة من جامعة متشجان (1971م).
بعد إهدائه الجميل ومقدمته الوافية، وضع المؤلف «توطئة تاريخية» تناول فيها:
أولاً: أهمية موقع فلسطين بين بلدين يتمتعان بظروف اقتصادية ممتازة ويمثلان قوتين عظميين وحضارتين من أقدم حضارات العالم وهما «حوض النيل» (مصر)، وحوض الرافدين دجلة والفرات (العراق).
وثانياً: أهمية موقع فلسطين على الحدود بين الصحراء جنوباً وشرقاً وبين جبال وسهول خصبة شمالاً وجنوباً. وثالثاً: أهمية موقع فلسطين على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط.
ورابعاً: ما شكلته تلك العوامل من إقامة مراكز التجمع السكاني في المناطق الجبلية شرقاً وشمالاً، وفي السهل الساحلي والأودية الداخلية.
ثم راح المؤلف يسرد «تاريخ إسدود» عبر خمسة عناصر مهمة:
العنصر الأول: إسدود قديماً؛ وفيه استند إلى نتائج الحفريات الأثرية التي قامت بها بعض الجامعات الأمريكية في ستينيات القرن العشرين التي أشارت إلى أن بدايات نشأة المدينة كانت في أوائل العصر البرونزي المتأخر بين (3000-2100) قبل الميلاد مرجحة أن يكون قوم العناقيين؛ أحد الأقوام الكنعانية، أول المؤسسين للمدينة وأطلقوا عليها اسم «أشدود» بمعنى «الحصن».
العنصر الثاني: إسدود الحديثة؛ وأكتفي هنا بالإشارة إلى الموقع الجغرافي لمدينة «إسدود» كما حدده المؤلف، إذ تقع عند التقاء خط طول 117 مع خط عرض 129 في الجزء الجنوبي من السهل الساحلي الفلسطيني الخصب، على الطريق التجاري الدولي بين مصر والشام.
العنصر الثالث: مخطط القرية؛ وقد أشار المؤلف إلى أن مخطط القرية كان على شكل مربع تقريباً يتوسطه الجامع الكبير، وتخترقه ثلاثة شوارع رئيسة تتجه من الشرق إلى الغرب؛ أولها من الشمال «شارع الجَوَدِه» وهو امتداد للطريق القادم من قرية الباطني الغربي، ويتوسط حارة الجوده، وثانيها الشارع الأوسط وهو امتداد لطريق آخر إلى قرية البطاني الغربي، وثالثها شارع المصريين وهو امتداد للطريق القادم من قرية بيت دراس. وضمن معالم القرية ذكر المؤلف ثلاثة مقاهٍ على جانبي الإسفلت وهي «مقهى سعيد وجميل كتوع»، ومقهى «أحمد ومحمد غبن»، و»مقهى خليل النجار»، وذكر كذلك «مصنع حجارة الإسمنت والقرميد».
العنصر الرابع: مساكن القرية؛ وقد أشار المؤلف إلى أن بيوت القرية ـ التي تتراوح مساحاتها في الغالب بين (150 و 500) متراً مربعاً ـ كانت في غالبيتها العظمى مبنية من قوالب الطين المجففة بحرارة الشمس.
العنصر الخامس: المقامات الدينية؛ وقد عدد المؤلف العديد من المعالم الدينية المهمة مثل «مقام سلمان الفارسي» صاحب فكرة حفر الخندق في غزوة الأحزاب، و»مقام المتبولي»، و»مقام أحمد أبي إقبال».
وفي الجزء الخاص بالسكان، أشار المؤلف إلى الأقوام التي توطنت فيها قروناً عدة، فأصبح الناس خليطاً متناسقاً منسجماً يصعب معه تحديد أصول العائلات، لكن فيما بعد تعارف الناس فيما بينهم على أنساب وانتماءات قبلية وعرقية تعود أحياناً إلى عشرة جدود أو أكثر.
ثم انتقل المؤلف إلى ما تميزت به إسدود من انتعاش اقتصادي، وما تميز به أهلها من حسن المعشر وكرم الضيافة، مما شجع أعداداً كبيرة من عائلات القرى المجاورة والبعيدة للقدوم إليها، والإقامة فيها، والتداخل مع أهلها، فنشأت علاقات مصاهرة فيما بينهم.
وحول أقسام السكان في إسدود، أشار المؤلف إلى أربع حمائل: حمولة «الجَوَدِهْ» وتقيم في الجهة الشمالية والشمالية الشرقية من إسدود، وحمولة «الدعالسة» وتقيم في الناحية الشرقية وفي جنوب الشارع الأوسط، وحمولة «الزكاكتة» وتقيم في الناحيتين الغربية والشمالية الغربية، وحمولة «المناعمة» وتقيم في وسط القرية والأجزاء الشرقية على جانبي الشارع الأوسط.
وأوضح هنا أن مفردة (عائلة) تختلف في معناها عن مفردة (حمولة)، فالعائلة تتكون من ذرية رجل واحد، فمثلاً «عائلة جوده» تعود ذريتها للجد المؤسس «جُودَه»، فإذا جاءت عائلات أخرى وانتمت إلى «عائلة جوده» وأقامت معها علاقات عمل ومصاهرة، فحينئذ تتشكل «الحمولة»، فيُقال «حمولة الجَوَدِهْ».
ثم تحدث المؤلف بشيء من التفصيل عن مكونات كل حمولة، متوسعاً قليلاً في الحديث عن «عائلة جوده» ومؤسسها الأول جدنا (جوده) وقصة رحيله من وادي فاطمة في مكة المكرمة، وأقامته في إسدود وزواجه فيها، ومن نسله تكونت «عائلة جوده»، وأشير هنا إلى أن المعلومات التي تفضل المؤلف بذكرها حيال قصة الرحيل تخالف في محتواها ما أشارت إليه مراجع أخرى، وكذلك لاحظت اختلافاً في أحفاد جدنا (جوده) عما هو مدون في مراجع أخرى، وأعكف حالياً على المقارنة بين ما اشتمل عليه هذا الكتاب القيم وما وثقته المراجع الأخرى في هذا الشأن، بالتزامن مع البحث عن مراجع أخرى لبلوغ المعلومات المؤكدة إن شاء الله.
و في الصفحات من (67 إلى 129) وجدتني كما لو أنني أشاهد حياة الناس الاجتماعية في إسدود في ذاك الزمان عبر الصور التي استطاع المؤلف أن يرسمها بحروفه وهو يسرد أدق التفاصيل الحياتية؛ مناسبات الزواج، والختان، والعزاء، والأعياد والمواسم، والعادات والتقاليد، والملابس، وألعاب الأطفال، وروابط المودة بين أهالي إسدود وسكان القرى المجاورة، ثم تحدث عن التعليم إذ كان اهتمام الدولة العثمانية بالتعليم تقليدياً ورمزياً، فكان التعليم يقتصر على المساجد على أيدي أئمتها.
وفي الصفحات من (131 إلى 172) تناول المؤلف الحياة الاقتصادية في إسدود، إذ كانت تقوم في الأغلب على الزراعة وقد اشتمل الحديث على البيارات والحواكير وتوزيعاتها وأصحابها ـ ولفت انتباهي عدم وجود (بيارة جدّي عبدالحميد جوده) بين البيارات ـ، كما تناول المؤلف بشيء من التفصيل الأراضي الزراعية وتوزيعاتها. وفي جانب الصناعة أشار المؤلف إلى بعض الصناعات الخفيفة التي كانت تغطي حاجة الفلاح، وأما التجارة فكانت معظمها محلية إذ تختص بتوفير الاحتياجات اليومية لأهالي القرية كالحبوب، والسكر، والشاي، والقهوة ...إلخ. ولم يغفل المؤلف المعاملات المالية التي كان يتعامل بها الناس إذ كانت في البداية تتم بالمقايضة، إلا أن هذا الأسلوب اختفى تماماً بعد الحرب العالمية الأولى.
وفي الصفحات من (175 إلى 212) نكأ المؤلف جراحات لم تلتئم، وآهات لم تهدأ، وغصات لم تزل تعصف بالكيان الفلسطيني بأكمله، إذ اختصت بأوضاع الناس حتى عام 1939م، والحركة العمالية وعصبة التحرر، وحرب 1948م، وانتهاءً بالجيش المصري في إسدود في المدة من (29/5 إلى 28/10/1948م)، حتى انتهى الأمر بنكبة عام 1948م إذ احتل العدو الصهيوني الكثير من المدن الفلسطينية وقراها، وقتل الكثير من أبنائها عبر المجازر التي ارتكبها بحق الشعب الفلسطيني الذي شرد من أرضه وممتلكاته، وإني لأدعوك قارئي الكريم إلى قراءة ما دونه المؤلف من أحداث في هذه الصفحات ليتسرب إليك الشعور بنشوة الفخار إذ كان الصمود والاستبسال عنوان تلك المرحلة في فلسطين كلها بشكل عام، وفي إسدود بشكل خاص، وقد وفق المؤلف إذ جعل عنوان هذا الكتاب «إسدود قلعة الجنوب»، لأنها بالفعل كانت كذلك قلعة الجنوب الفلسطيني في وجه الغاصب الذي لن تهدأ لنا جوارح إلا بإخراجه من أرضنا وإقامة دولتنا الفلسطينية المستقلة على كامل التراب الفلسطيني من رأس الناقورة شمالاً إلى أم الرشراش جنوباً، ومن نهر الأردن شرقاً إلى البحر الأبيض المتوسط غرباً، وإنه لمشهد بإذن الله آت.
وفي الصفحات من (213 إلى 255) وثّق المؤلف في كتابه العديد من الأمثال الشعبية، وبعض الفوازير في إسدود، أما الأمثال الشعبية فقد مهد لها بمقدمة لافتة أثمنها له عالياً، وسرد بعض الأمثال الشعبية التي جرت على الألسن، وأذكر بعضها على نحو لفظها: «ابن الحرام لا بينام ولا بخلّي غيره ينام»، و»ابن العم بينزل العروس عن ظهر الفرس»، و»اتجوز الأصيلة ونام عالحصيرة»، و»إجاك الموت يا تارك الصلاة»، و»اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب»، و»أعطي الخبر لخبازه ولو أكل نُصّه»، و»أهل إسدود أهل الكرم والجود» ... إلخ. وأما الفوازير (الحزازير)؛ فأضع بعضها لك قارئي الكريم وأترقب إجاباتك عليها: «إشي قد الكف بيقتل ميّة وألف» ما هو؟، و»خيار اسمه، أخضر جسمه، الله لا يعرفك اسمه» ما هو؟، و»طويل طويل ما بطول بز البقرة» ما هو؟.
ولم يغب عن المؤلف أن يُضمّن كتابه قائمتين جميلتين؛ الأولى تختص بالمتزوجين من خارج إسدود، والثانية بالمتزوجين بأكثر من زوجة.
ثم ختم المؤلف كتابه ببعض الصور المؤثرة عن بلدة إسدود، وبيوتاتها، وأهاليها، وما تبقى من معالمها، بالإضافة إلى عدد من الصور التي التقطت له في زيارتيه لقرية إسدود؛ عام 2011م وعام 2012م، وصور أخرى لوثائق قديمة تخصه؛ منها: صورة لشهادة تبليغ ولادته بتاريخ 8/2/1932م، وصورة لبطاقة هويته، وصور لبعض سندات القبض من بينها وصل استلام ضريبة المنازل والأراضي، وصورة جميلة لشهادة نجاحه في الصف السابع من «مدرسة ذكور إسدود الأميرية»، السنة الدراسية 1945/1946م، صادرة عن وزارة المعارف في حكومة فلسطين، وكان لافتاً فيها أن تقييم التلميذ لا يوثِّق الدرجات التي حصل عليها في كل موضوع، بل يوثِّق رتبته (ترتيبه) بين زملائه الآخرين في كل موضوع من الموضوعات الثمانية التي اشتملت عليها الشهادة.
وتضمنت الصور كذلك مخططاً لقرية إسدود بخط اليد مبيناً شوارعها بتعرجاتها، وشجرة مرسومة لنسل العائلة تبين الجد المؤسس «جوده» وابنيه «محمد» و»عبدالجواد» والأجيال الثلاثة الأولى من أحفاده، وكما أسفلت فيها بعض اختلاف.
وأختم هنا أن الكتاب يمثل ثروة معلوماتية هائلة، ويعد إضافة ثرية للمكتبة العربية من حيث ما اشتمل عليه من سرد تاريخي شامل ودقيق عن بلدتنا إسدود، وما تميز به من تفاصيل شاملة توثق لحقيقة راسخة هي أن هذه الأرض، وهذا التاريخ، وهذه المقدسات، وهذه الحضارة، ليست إلا فلسطين ولن تكون إلا لشعبها العظيم. بالإضافة إلى ذلك تعدد المصادر البالغة التي استند إليها المؤلف، وقد بلغت واحداً وأربعين مصدراً باللغتين العربية والإنجليزية، لكنه لم يوثق اقتباساته ضمن هوامش داخلية في الكتاب.
ولا يسعني هنا إلا أن أبرق للمؤلف همسة شكر مجللة بعظيم التقدير والاحترام على ما بذل في هذا الكتاب ليس فقط من جهد فكري لا يقوى عليه إلا ذوو العلم الغزير والدراية الواسعة في البحث، إنما أيضاً ما بذل فيه من جهد جسدي يتمثل في التنقلات بين المكتبات، والتجوال بين صفحات المراجع المهمة، وأيضاً ما واجهه من معاناة أثناء زيارتيه إلى إسدود ليمنح الكتاب نكهة فلسطينية خاصة مفعمة بالحنين.