عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    18-Oct-2019

سورة البقرة: ارتباط الاسم بالموضوع - د. محمد المجالي

 

 

الغد- رغم كونھا أكبر سورة في القرآن، ورغم تعدد موضوعاتھا وتنوعھا، إلا أننا یمكن أن نجتھد في البحث عن محور رئیس لھا، أو ما یسمى بالوحدة الموضوعیة، وكذلك البحث عن العلاقة بین ھذه الموضوعات والمحور مع الاسم ذاتھ، البقرة، لم كان ھكذا، رغم وجود أسماء وموضوعات أخرى؟
ھي من أوائل السور التي نزلت على النبي صلى الله علیھ وسلم في المدینة، وقد تكون آیات منھا ھي الأولى على الإطلاق مما نزل بعد الھجرة، ولنا أن نتذكر أن البیئة الجدیدة التي انتقل إلیھا- صلى الله علیھ وسلم- تختلف عن بیئة مكة، حیث الأنصار أولا، وھم الذین آمنوا بھ وھیؤوا لھّ انطلاق دولتھ، وھناك مكو ّ ن آخر للمجتمع المدني ھو الیھود، ومكو ً ن ثالث لم یكن موجودا ابتداء، ولكن لا بد من ومضات وإشارات إلى طبائعھم وخصائصھم حتى یحسن التعامل معھم، وھم المنافقون، فكانت السورة تھیئة للنبي صلى الله علیھ وسلم والمؤمنین في كیفیة التعامل مع ھؤلاء جمیعا.
ذكر بعض العلماء أن ھذه السورة ھي سورة خصائص أمة الخلافة، فقد ذكر الله مھمة ھذا المخلوق الذي أخبر الملائكة بأنھ خالقھ، وھي أنھ خلیفة، ولكن من شأن نسلھ أن یفسدوا في الأرض ویسفكوا الدماء، فھم لیسوا ملائكة، بل مكلفون وفیھم نزعتا الخیر والشر، ومن ھنا ندرك ونتوقع الجانب السلبي في حیاة الناس، ولذلك جاءت ھذه السورة تبین خصائص أمة الخلافة، وسمیت (البقرة) بمناسبة سیاقھا ولیس ذات البقرة، فقصة البقرة عكست التردد والسلبیة في الشخصیة والھروب من المسؤولیة، وھذه أمور لا ینبغي أن تكون في أمة الخلافة.
وإذا نظرنا في كامل قصص بني إسرائیل في السورة، وجدنا الاحتیال، والمیل إلى الاستضعاف، والتململ من التكلیف، وعدم الصبر، لا على طعام ولا على ابتلاء ولا على تكلیف، ولذلك ابتدأ الحدیث عنھم بتذكیرھم بما أنعم الله علیھم وتفضل بھ علیھم من أمور مادیة ومعنویة، ومع ذلك قابلوا إحسانھ بالإساءة والتململ والإنكار، كیف لا وھم الذین أنجاھم الله من فرعون بآیة عظیمة حیث انشق البحر لھم، ولما وردوا على قوم یعكفون على أصنام لھم قالوا یا موسى اجعل لنا إلھا كما لھم آلھة!!
حتى قصة الملأ من بني إسرائیل من بعد موسى التي ذكرت في آخر السورة، وھي قصة طالوت وجالوت وداود، حیث بینت تخاذلھم وتناقض أفعالھم مع أقوالھم، وكیف ذكر الله داود من دون مقدمات إذ كان في جیش طالوت، وھو الذي قتل جالوت، وأخبر عنھ في سورة أخرى بأنھ جعلھ خلیفة (یا داود إنا جعلناك في الأرض خلیفة).
إن السورة بكاملھا تعتني بالتوجیھات التي ینبغي أن تتأسس في أمة الخلافة، من ھنا كان التصنیف ابتداء بذكر أصناف الناس، مؤمن وكافر ومنافق، وكان التذكیر بالخلق، وآدم، وطبیعتھ، ومیولھ وما یوسوس بھ الشیطان لھ، واسترسلت السورة في الحدیث عن بني إسرائیل، ثم موضوع النسخ، ثم خلافاتھم وتناحرھم (الیھود والنصارى)، وخبایا صفاتھم، كل ذلك لیؤخذ بعین الاعتبار في تعامل النبي محمد صلى الله علیھ وسلم معھم.
ثم جاءت قصة إبراھیم في بنائھ الكعبة، وفي دعائھ، حیث الإشارة إلى النبي الخاتم صلى الله علیھ وسلم، وأمتھ الوارثة، بعدھا یبدأ شوط طویل من التشریع، بشقیھ: العبادات والمعاملات، ویبدأ بتغییر القبلة، وفیھا إشارة واضحة إلى مخالفة أھل الكتاب، وتمیز الأمة، ثم التشریع حیث ما لھ علاقة بتكریم النفس بمنع إزھاقھا، حیث بعض أحكام القصاص، والوصیة حیث المال ومستحقیھ، ثم الصیام والحج والقتال، وتشریعات الأسرة بتفاصیلھا الدقیقة، وأسھب السیاق في الطلاق تحدیدا حیث النزاع والتفكك واھتزاز المجتمع وتخلخل لبناتھ، فھي إشارة إلى أن نقطة الانطلاق من الأسرة كیف نُ ْح ّ كم بناءھا على الأصول الصحیحة، وكیف تكون البیوت مكونات رئیسة في بنیان المجتمع المتراحم المتماسك. وھناك أیضا الإشارة إلى الأمة الواحدة، وما یعین على المسیرة من صبر وصلاة، وھكذا.
وختمت السورة بآیة الكرسي، وما تلاھا من تعظیم ، والیقین بقدرتھ تعالى على فعل كل شيء، فكانت قصة إبراھیم مرة أخرى في محاجتھ للنمرود، وكیف أراه الله كیف یحیي الموتى، وأحكام مالیة من الإنفاق والدیون والربا، وكأن لسان حال السورة یقول: قد فصلت لكم ما تحتاجون إلیھ من  أمور حیاتكم، فلتكونوا منقادین مقْدمین راغبین في عبودیتكم ، غیر مترددین ولا متثاقلین.
ھي سورة متعاضدة من حیث ارتباط موضوعاتھا رغم كثرتھا، سورة ترید من المسلم أن یكون منطلقا من الكتاب ذاتھ، لا ریب فیھ، ھدى للمتقین، الذین یؤمنون بالغیب ویقیمون الصلاة ومما رزقھم الله ینفقون، ھم راسخون في عقیدتھم وسلوكھم، وتنتھي بھم السورة في أنھم مؤمنون آمنوا با وملائكتھ وكتبھ ورسلھ، وھم یحسبون لسلوكھم وإیمانھم كل حساب، حتى ما یختلج في صدورھم، ما أبدوه أو أخفوه.
وما أجملھا من نھایة ملائمة لممیزات أمة الخلافة، فھي كثیرة، ولكن: ”لا یكلف الله نفسا إلا وسعھا، لھا ما كسبت وعلیھا ما اكتسبت“، وما أجملھ من دعاء یُشعر بالتكلیف والمسؤولیة: ربنا لا تؤاخذنا إن نسینا أو أخطأنا، ”ربنا ولا تحمل علینا إصرا كما حملتھ على الذین من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا بھ، واعف عنا واغفر لنا وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافری