الدستور - د. عمر الخواجـا
خوابي القاص الدكتور عيسى حداد زاخرة بالحكايات والغرائب والمفاجآت ومفعمة بالعواطف والأحاسيس والمشاعر، تحمل من الآمال والتّطلعات بمقدار ما فيها من المآسي والاحزان وتختزن داخلها من الأسرار أكثر مما تُظهر.
عيسى حداد في إصداره الجديد نسجَ مجموعة من القصص المتنوعة تتحركُ في فضائها المُتخيّل شخصيات دون أسماء أو هوية، وتتصاعد فيها الأحداث دون مكان أو زمان مُحددين، في البداية لا بد من طرح السؤال التالي: كيف تعامل القاص عيسى حداد مع عناصر ومكوّنات القصة القصيرة؟
لقد بدأ الكاتب مجموعته القصصية من خلال إهداء عائلي جميل يشي بالتزام اجتماعي مُميّز حيث يقول :(إلى المربية الفاضلة زوجتي الغالية أم سيف ... إلى أبنائي المهندسة أسيل والمهندس سيف والمهندس سهم والمحامية سالي ما قيمة الحياة إن لم تكونوا فيها؟) ...من خلال هذه العتبة الهامة من عتبات النّص يظهر الانتماء العائلي والذي يعكس أثره على الواقعية الاجتماعية التي تطغى على نصوص المجموعة حيث تبدو شخصيات الكاتب المجردة من الأسماء وهي تحمل بُعدا اجتماعيا إنسانيا عابرا للمكان والزمان.
في خوابي عيسى حداد تتناثر الحكايات على شكل صور فنيّة بانسياب مدهش حيث تقترب من الواقع المعاش رغم غرابتها حينا وبساطتها أحيانا أخرى،صورة الوطن عند كاتبنا صورة مؤثرة وعابرة للمكان حيث نرى الكاتب في قصة( حقيبة ) وهو يختصر التاريخ والبطولات والأشعار في حقيبة ورثها البطل عن جده يحملها في حلّه وترحاله، وتتسع هذه الحقيبة لكي تصبح بحجم الوطن، ولكنّ هذا الوطن يظهر في قصة ( تشوّهات ) من خلال المريض الذي يعاني منتشوّهات في قلبه حيث يقول للطبيب : ( أرجوك يا دكتور أن تعيد النظر بالفحوصات يبدو أن ما تشاهده ما هو الا التشوّهات التي لحقت بوطني ) ... يبدو الكاتب في قصصه مُتأثرا بالواقع الحالي المليء بالحروب والخراب والدمار ففي قصة ( يد ) يصوّر مأساة فقدان الأم لدى طفل نجا من عملية قصف مدمرة فلم يجد من والدته سوى يدها والتي تستمر في المسح على شعره الناعم كناية عن عاطفة الامومة التي لا تنتهي
عيسى حداد يكتب قصته القصيرة بنكهة روائية تعتمد الوضوح أسلوبا فنيّا بعيدا عن السطحية والتعقيد والاستخدام المفرط للرمزية الأدبية، فهو يمسك بخيوط حكايته مُدّخرا مفاجآته في ثنايا الكلمات الأخيرة للقصة ... في ظل هذه المعطيات الأدبية نستنتج انّ الكاتب تعامل مع عناصر القصة القصيرة بأدواته الأدبية الخاصة مُستفيدا من الأدب العالمي والتراث المحلّيوالامثال الشعبية.
بعض الكتاب يبدأ قصته بكتابة العنوان وبعضهم يؤجله لنهاية الحكاية ولكنّ كاتبنا ينحتُ عنوان قصته وكأنه يرسم لوحة فنية أو نصا مستقلا بذاته.
العنوان فاتحة الفكرة والدلالة الأولى على الشّخوص والمكان والزمان وهو العتبة الأهم من عتبات النّص القصصي وهو في ظن بعض النّقاد يُشكّل نصا موازيا يحمل في داخلة وظيفة تعريفية وايحائية تُغري القارئ وتجذبه نحو الفكرة والموضوع.
لقد تعامل عيسى حداد مع عناوين قصصه بدقة وتركيز واتقان فبدت في معظمها وكأنّها جزء رئيس من الحكاية، تحملُ داخل حروفها القليلة كثيرا من الرسائل والدلالات والمعاني، وتُحفّز القارئ على تخيّل جوهر الموضوع القصصي وتزوّده بعنصر التشويق والمفاجأة وهي بعيدة عن المباشرة والسطحية قريبة من الايجاز والتكثيف، تصفُ جزءا من الموضوع دون تبسيطأ واستخفاف وتحمل بعض الغموض الهادف دون متاهة أو ضياع .
كاتبنا برع في استخدام كلمة مفردة دون ال التعريف كعنوان في معظم قصص المجموعة محاولا اختصار المضامين وتكثيف المعاني حيث نلاحظ ذلك من خلال العناوين التالية (حازوقة، خوابي، شُموخ، إحباط، سحليّة، قُبْلة، زِرّ، شَفَقَة، عاشقان، دُمْيَة، تشوُّهات، مَهْر، إنجاب، فِراش، دِفء، حنين، سباحة، عطلة، طعْن، مسافرة كَفَن، هديّة، جمْرة، خلاف، مستحيل، مُبادرات، صمْت، الهويّة، مؤشِّر، إرث، ثأر، دَفْن، طفلته، رُهاب، تمادي، حسد، أمنية، إحداثيات،قُطيطات، صدفة، حقيبة، إحسان، يد، أمانات، حيرة، رمّانتان، تلكُّؤ،غفران،هوس، ثوب، اشتياق، جائزة،طلاق،توسعة ) نلاحظ أن هذه الكلمات المحمّلة بكم كبير من الأفكار تُحفّز القارئ على توقع ماهية النص، ففي قصة ( شموخ ) يدلّ العنوان بشكل واضح على قيمة اجتماعية وثقافية ووطنية فهذه المفردة تُدخلنا أجواء النص مُشبعين بخيالات البطولة والعنفوان والكبرياء وسُرعان ما يتعزز لدينا هذا الشعور حينما نقرأ كلمة صقر، لقد أدّى العنوان وظيفته المُثلى وفتح أمامنا آفاقا واسعة للتخيّل والملاحظة مما جعلنا نسير مع الكاتب في سرده القصصي بتوافقِ تام.
عيسى حداد ينوّع في عناوين قصصه فيستخدم في بعضها ال التعريف كما جاء في(الرسم على الرمال والهوية والعشق القاتلوالحنين للعودة) .... ولكنّ هذه العناوين المعرفة تأتي كمساحات مفتوحة للتوقع والخيال يُحلّق من خلالها القارئ في فضاء الاحتمالات والتنبؤ والتخمين.
كما استخدم الكاتب العناوين المكونة من جملة بمختلف أنواعها (قاص حذر وشكل مختلف وأسلوب جديد وسوء فهم ودرس صادم وثيران هائجة وحزن الرياح ومراد صعب وصداقة حميمة وهذا انا وحبل المودة واجتماع موسع ورأس عنيد وروح نازفة وورقة صفراء والرسم على الرمال وبحث مضن وهدية ابو رجل ممل وجيل جديد وامر محير وسيمفونية وداع وإرادة الرب وخيمة اعتصام وهدايا العيد وطريق وعرة ولوحة إعلانات واللهم خير وهل من مشتر والعشق القاتل الحنين للعودة وصورة ام هوكي لا يموت وحرية جافة) ... من خلال هذه الجمل المتنوعة حاول عيسى حداد صياغة عنوان أكثر دلالة من الكلمة الواحدة كي يأخذ بيد القارئ في الاتجاه المطلوب نحو الفكرة والمعنى بسهولة ويسر.
تظهر شخصيات القصص مألوفة حينا وغريبة أحيانا أخرى ولكنّها شخصيات ذات بعد اجتماعي ونفسي تُجسّد رؤية الكاتب وفكرته وتنمو وتتحرك مع الأحداث، شخصيات قصص الخوابيلا تخضع لمنطق التعريف المؤطّر بمكان وزمان محددين الاّ انها كائنات بشرية من لحم ودم وخليط متناقض من المشاعر والأفكار والأحاسيس.
في قصة (إرث)تظهر شخصية الفتاة (ابنةالخطيئة) شخصية سلبية تكتشف طبيعة عمل والدتها من خلال الرجال الغرباء الذين يحضرون للبيت فتشعر بالألم والمعاناة ولكنها تجد لوالدتها تبريرا (ان أمها تعيش بلا معيل او سند وقعت ضحية الحرمان والحاجة ليتلقفها أبناء الحرام ويستغلوها مقابل لقمة عيش تسد رمق جوع الصحراء التي تاهت في ثنايا شقوقها العميقة)... تحمل شخصية الفتاة مع شخصية والدتها بعدا اجتماعيا اطلق علية الكاتب كلمة ارث، لقد نمت وتطوّرت شخصية الفتاة وسارت على درب والدتها،كما تطوّرت شخصية الوالدة من امرأة مرغوبة من الرجال لامرأة لا تصلح لهذه المهنة .. كما في معظم قصص المجموعة من الصعوبة أن نحدد من هي الشخصية الرئيسة ومن هي الشخصية الثانوية فالفتاة والوالدة تحملان بعدا نفسيا خاصا وتمثلان نموذجا اجتماعيا من التعرّض للمعاناة والظلم والاستغلال.
يرى كثيرمن النقاد أن هناك ارتباط وثيق بين البداية والنهاية في القصة القصيرة ... يُظهر القاص عيسى حداد من خلال مجموعته القصصية الجديدة اهتماما كبيرا بعنصري البداية والنهاية بحيث تبدأ معظم قصصه من خلال جمل تحمل بين كلماتها التشويق والمهارة والحكمة وتنتهي بطريقة تفتح للقارئ أبواب التساؤل والدهشة والخيال، في كثير من القصص يظهر عنصري البداية والنهاية بشكل بارز يفوق العناصر الأخرى ففي قصة (حيرة ) تبدأ القصة بالزواج ولكنها سرعان ما تنتهي بالحيرة والتساؤل ( كيف تحول من شخص موفور الصحة والسعادة لشخص مفلس مريض على وشك الموت .. هل هو الزواج من سبب له كل ذلك ...؟
تنوّعت بدايات القصص عند عيسى حداد فهناك البداية الظرفية والتي تبدأ بمكان أو زمان كما جاء في قصة ( شفقة ) والتي تبدأ كالتالي ( بلغ السابعة من عمره ولم ينتعل حذاء )، أمّا في قصة( سباحة ) فانّ البداية تكون بالظرف المكاني حيث تبدأ بجلوس البطلة جوار البحيرة التي تطلّ على بلدتها في الضفة الأخرى، في كثير من القصص برزت البداية السردية كظاهرة متكررة، ففي قصة ( دمية ) تبدأ القصة بسرد مباشر من قبل الكاتب الراوي من خلال جملة فعلية ( صنعت لها أمها منذ نعومة اظفارها لعبة من الخرق البالية وحشتها بالريش ...) .
كما لاحظنا بعض البدايات الحوارية كما في قصة (حبل للمودّة) حيث تبدأ القصة بحديث الطفل لوالده قائلا: أبي لقد شاهدت جدي ...اما فيقصة (رهاب)فقد استخدم الكاتب (البداية المفارقة)من خلال جملة غريبة حيث يقول (بحثت عن جسدي فلم أجده سألت أهلي هل رأى أحد منكم جسدي؟ ... )
أما النهايات فهي كالبدايات أخذت من الكاتب جهدا وفيرا واحتلت حيّزا كبيرا من تفكيره الفنّي حيث ظهر اهتمام القاص بجعل نهايات قصصه تترك علامات فارقة عند القارئ، فهناك النهاية المفاجئة في قصة ( انجاب ) حيث تنتهي بالحقيقة الصادمة والتي تفاجئالقارئ حيث أن هذه السيدة والتي تظن أنها انجبت كثيرا من الأطفال عاقر، أما في قصة( دفء ) فتنتهي بالمعلومة التي يذكرها الكاتب عن البطل بعد ان يظن القارئ أنه يبحث عن زوجته بعد ان اكتشف ان سريره الفارغ بارد فاذا به يبحث عن قطته، وجاءت نهايات بعض القصص بشكل سردي ( النهاية السردية )كما في قصة ( مؤشر ) والتي يتحدث فيها الكاتب عن العلاقة بين شجر اللوز في بستان جده وصحة جده حيث ينهي القصة ساردا الأحداث النهائية بطريقة توضيحية ومباشرة حيث يقول ( قام الشاب بزرع شجرة ليمون بجوار قبر جده وكلما كان يزور القبر ويجد ان الشجرة خضراء ويانعة كان يحمد الله على ان جده ينام بسلام )
لقد استخدم الكاتب النهاية المأساوية في بعض قصص المجموعة كما في قصة (سمفونية الوداع)حيث تنتهي القصة بانتهاء حياة العامل والتي نستنتجها من خلال هذه الكلمات الحزينة (...سمعت صوت الكوب وهو يسقط على الأرض عادت اليه مسرعة وهزته بقوة وعندما لم يستجيب لها صرخت بأعلى صوتها هزت صرختها اركان الكوخ وارتدت عن السقف معلنة سيمفونية الوداع الأخير)
تمثل هذه المجموعة القصصية (الخوابي) إضافة نوعية لمسيرة الدكتور عيسى حداد الأدبية ففيها من النفس الطويل ما يوحي بأنّ الكاتب يملك مزيدا من الابداع ومزيدا من الإنجازات الأدبية على صعيد القصة القصيرة.