القدس العربي -
من الخطأ أسلمة العروبة، لأنها هوية وماهية وثقافة سبقت الإسلام، وهي اللسان سواء كانت العرب عاربة أو مستعربة، وبذا فالعروبة ليس لها علاقة بالدين، لهذا تكمن طاقة الخطأ في أسلمة ما هو غير إسلامي في الأساس.
ومن الخطأ أيضا ًعوربة الأقوام غير العربية، وليس ثمة ضرورة لنفي أو إثبات أي علاقة ثنائية (تعارضية أو تكاملية) بين العروبة والإسلام، و»بالتالي، فلا معنى لوضع الإسلام بهذا المفهوم في علاقة ثنائية مع العروبة» (محمد عابد الجابري/ مسألة الهوية / العروبة والإسلام.. والغرب/ 2012)، فقد انبنت العلاقة بين العروبة والإسلام ـ على فكرة قومية مضمرة بشيفرة أيديولوجية اقترنت برد الفعل على سياسة التتريك العثمانية، وبذا لم تكن القومية رابطة قوية في الإسلام، فقد تخلخلت إسلامية الدولة اللاعربية، ابتداءً من نشوء الصراع بين العصبية العربية والإسلامية اللاعربية، وذلك بدافع رفض دخول غير العربي إلى الجسم القومي العربي، وإلا فما تعليل عروبة الدولة الإسلامية، في أن يكون الخليفة عربيا – شرطاً لعروبة الإسلام وإسلامية العروبة؟
ثم أخفقت الحركة القومية في بناء دولة قومية عربية، لتظهر الدولة القطرية كبديل لها، بعد استحالة تحقيق الوحدة العربية، وبذا لا يمكن (قومنة) الإسلام بتقعيد مدلوله العربي بالقومية، لأن الإسلام يتكوّن من قوميات مختلفة، كما أن العروبة لا تعني القومية، ولا تحيل إليها، وإنما تعني العربي وعلاقته بالآخر، لهذا ينبغي التمييز بين العروبة والقومية، فالقومية أيديولوجية سياسية، والعروبة هوية ولغة وتاريخ، ومن الخطأ ربط القومية بالإسلام، أو المساواة بينهما، فالأيديولوجية ليست بديلة عن الدين، والدين ثقافة وليس عبادة فقط.
وعندما أخذ العرب فكرة دمقرطة القومية من الغرب، كانت الديمقراطية تحتضر في موطنها الأصلي (أوروبا) بظهور الشعبوية الجديدة، بوصفها نقيض الحركة القومية، لتبدأ مرحلة جديدة، تحوّلت فيها الديمقراطية العربية إلى ديكتاتورية جديدة.
وإن كان لابد من التمييز بين العروبة كقومية والإسلام كديانة، فإن الأمة الإسلامية ليست أمة عربية، لأنها تتألف من قوميات متعدِّدة، حيث (أقنم) ساطع الحصري «الأمة» في «اللغة» و»التاريخ». أما إلياس مرقص فقد نظر إلى «الأمة» بوصفها «لغة قومية»، ثم نظر إلى تاريخ الأمة بوصفه «تناضد طبقات» ( إلياس مرقص/ مقدمات في نقد الفكر القومي العربي السائد/ مجلة الواقع ـ 1981). وقبل ذلك، ينبغي إسقاط مبدأ اقتران القومية العربية بالعروبة، وإلاّ فما تعليل انحلال القومية العربية كأيديولوجية، ومن ثم اضمحلال فكرتها العربية؟ وبذا ألم تكن القومية مرحلة وليست نهاية؟
لقد تراجعت القومية ـ إن لم نقل ـ انكفأت، بعد أن اصطدم الفكر القومي بالتنوع العرقي وتعدّد النظم السياسية، واختلاف الأوضاع الاجتماعية، وقد أزاحت القطرية والطائفية والقبلية وجود الطبقة والأمة، وبذا لم تتحوّل القومية العربية إلى حقيقة إنسانية فاعلة، فقد ظل هدف الوحدة في القومية العربية «نظرة مجردّة لا روح فيها» (برهان غليون المحنة العربية: الدولة ضد الأمة/ 2003)، بل أخفقت القومية في تحقيق الاشتراكية على الصعيد التاريخي. وما يعنينا أكثر: لماذا أخفقت القومية العربية في المصالحة مع الدين؟ وهل كان ذلك بسبب العلمنة القومية أو القومنة العلمانية؟ لقد أخفقت القومية العربية في الانتقال من النهضة إلى التنمية، فانكفأت معها حركة التحديث التي بدأت مع محمد علي باشا في القاهرة، حتى انحسرت مع هزيمة الخامس من يونيو/حزيران عام 1967، وانكفأت معها الأنظمة العربية على ذواتها القطرية. وإن كان الإسلام، قد نشأ عربيا، فهل القومية العربية من الشعارات الأفـّاكة التي بثها المستعمرون ـ كما ذهب إلى ذلك محمد عمارة؟ (محمد عمارة / الإسلام والعروبة/ 1988).
لقد أخطأ محمد عمارة، عندما ربط بين التوحيد الديني والتوحيد القومي، فالعروبة عنده تمثل واقعا طوّره الإسلام، ويقصد بالعروبة «العروبة المتحضِّرة بعد العروبة العرقية الجاهلية، التي كانت منافية لإنسانية الإسلام».
وعلى الرغم من أن العرب المسلمين اتجهوا نحو معالجة تفكّك الدولة العربية الإسلامية بالعصبية القبلية والعنصر العربي لمواجهة الشعبوية وقوى التفكيك العثماني، فإن العلاقة بين العروبة والإسلام كانت مفككة أصلا. إذن هل العرب قوم أم جماعة أم أمة، أم هم كل ذلك؟ وهل جاء الإسلام كدين لتوحيد القوميات، أم لإحتواء الأديان الأخرى؟
لقد أخطأ محمد عمارة، عندما ربط بين التوحيد الديني والتوحيد القومي، فالعروبة عنده تمثل واقعا طوّره الإسلام، ويقصد بالعروبة «العروبة المتحضِّرة بعد العروبة العرقية الجاهلية، التي كانت منافية لإنسانية الإسلام» (محمد عمارة/ الإسلام والعروبة). وهنا وقع محمد عمارة في تناقض واضح، حيث يقول: «في إطار العقيدة الإسلامية ليست هناك خصوصية للعرب على غيرهم من الأمم بالمعنى القومي»، ثم يقول أيضا: لقد نزل القرآن بلسان عربي مبين، من هنا تبدأ الخصوصية بين العروبة والإسلام، لتبدأ العلاقة المتميّزة بين العرب والإسلام (محمد عمارة الإسلام والعروبة).
ولكن ما يعنينا أكثر من ذلك: جدل العلاقة بين العرب كقومية والإسلام كديانة، خاصة الكيفية التي تشاكلت بينهما، ويمكن اختزال إشكالية علاقة العروبة بالإسلام ـ بسؤال مركزي: هل ثمة تناقض بين الإسلام والعروبة في هوية الأمة العربية الإسلامية؟ وإن كانت العروبة، قد سبقت الإسلام، فإن الإسلام هو العقيدة، التي وحّدت القوميات الأخرى، ثم تحول الإسلام إلى دين دولة، ثم تحول إلى دين إنساني شامل، شكّل العرب فيه النواة الأساسية، ولكن مع تكوِّن الدولة الإسلامية، بدأ الاختلاف ـ إن لم نقل ـ الصراع الهوياتي بين (العروبة والإسلام)، غير أن المسألة الأولى الأكثر إشكالية: هل تعايشت العروبة مع الإسلام؟ وهل استوعبها الإسلام كواقع عربي؟ ورغم عروبة الإسلام من حيث الخصوصية العربية التي تجوهرت في (البيان العربي)، فقد تخطى الإسلام – عروبته العربية، عابرا حدود القوميات والحضارات والجماعات البشرية الأخرى، ليس لأن العرب هم الحاضنة العربية للاسلام، وانما لأن الإسلام هوية وماهية متحرِّكة بأفق إنساني. ورغم أن العروبة ـ كقومية نشأت عن الهوية العربية بأيديولوجيا سياسية، فإن المسألة الثانية الأكثر إشكالية، هي: إشكالية عوربة القوميات غير العربية أو أسلمة القوميات غير الإسلامية. وتلك قضية أخرى.
٭ ناقد وكاتب من العراق