ست الحبايب.. لمسات إنسانية من سينما الزمن الجميل
الراي - أبواب - زياد عساف - «وحدها أمي كانت ترى في رمش عيني..ما تبقى من رذاذ الدمعة..التي مسحتها بِكُمِ قميصي»، صورة شعرية خطها يوسف صوافطة بحبر الحنين، وكم من المشاهد السينمائية جاءت ترجمة لهذا البوح، فالسينما والأدب شكلا معا لمسات إبداعية تمثلت بروائع سينمائية خالدة لا يملها المشاهدون رغم تكرار عرضها على مدار السنة، أو مع إعادة بث أغلبها في يوم واحد من كل عام تحت مسمى غير منصف هو(عيد الأم).
فاقد الشيء..
علاقة المشاهدين بأمهات السينما المصرية أو من أبدعن بدور الأم أوجد حالة من الخصوصية بين الطرفين لدرجة أن كثيرين ممن أخذتهم الحياة وقصروا أو تناسوا أمهاتهم، وبمجرد مشاهدة أحد هذه من الأعمال تنتابهم صحوة ضمير يسارعون بعدها للتواصل مع ست الحبايب تكفيرا عن هذا الذنب، ولو اقتصر دور السينما على تحقيق هذا التواصل وما يقدمه من تمتين للعلاقة داخل الأسرة الواحدة، فهذا لوحده يعتبر إنجازا متميزا يحسب للسينما العربية لا عليها.
«فاقد الشيء لا يعطيه» حكمة تجافي الحقيقة أحيانا وهذا ما اثبتته تجارب الحياة فيما يتعلق بحنان الأم، ف (الحرمان) مثلا هو كلمة السر وراء هذا التألق لمن اشتهرن بدور الأم في السينما، ولتكن البداية مع حكاية امرأة لم تنجب رغم زواجها مرتين في المرة الأولى تزوجت في سن صغيرة وطلقت مبكرا أيضا ، أي لم تعش الأمومة الحقيقية التي هي غاية كل امرأة، وقد توفي والدها وهي طفلة ثم رباها الشيخ علي يوسف والحقها للتعلم في المدرسة، وكان من ضمن ماتعلمته (التدبير المنزلي) الذي أثر في شخصيتها أيضا، ساهمت هذه الأحداث بحضورها المؤثر على الشاشة، وقدرتها المتميزة على التعبير الصادق الذي يشع من عينيها وقسمات وجهها، وحتى في صمتها المقهو? وهي تعاني ضيق الحيلة واليد تجاه ابنائها، إنها ابنة (حي المغربلين) فردوس محمد المشهورة بلقب (أم السينما المصرية)، لدرجة ان عبد الحليم حافظ الذي لعب دور ابنها بفيلم (حكاية حب) 1959 اعتاد ان يتصل بها لينال دعواتها كلما هم بتصوير فيلم أو إقامة حفلات في الخارج.
ماما أمينة..
«ماما أمينة»، لقب استحقته الفنانة أمينة رزق،وهكذا اعتاد أن يخاطبها زملاؤها من الممثلين والمخرجين والعمال في بلاتوهات التصوير، إذ كانت أما للجميع فصدق أدائها على الشاشة هو نفسه على مسرح الحياة، رغم أنها لم تتزوج من الأصل ليضاف لها لقب ثانٍ هو (عزباء السينما العربية).
أما فاقد الشيء الذي أعطى بصدق ما افتقده الاّخرون، تمثل بأداء الفنانة عزيزة حلمي الأم التي فقدت ابنها الوحيد في سن صغيرة، وفرَّغت هذا الحزن المقيم في حناياها الى حالة من الأداء التمثيلي المذهل، وإلى الاّن لم يأت من يقدم دور الأم الطيبة الحنونة على الشاشة بمستوى أداء من سبق ذكرهن، بالإضافة لأخريات مثل عقيلة راتب ومديحة يسري وكريمة مختار واّمال زايد وعلية عبد المنعم.
طاقة سلبية..
دور الأم في السينما لا يقتصر على تقديم النموذج الإيجابي أي الأمهات الطيبات والمكافحات، ففي الحياة نماذج سلبية أيضا كالأم المهملة، المتسلطة، المستسلمة والمنحرفة، ولأن الشيء يعرف بضده أو نقيضه تبرز قيمة الأم المعطاءة بإظهار الصورة المناقضة لها، أي الأم التي أهملت دورها وواجبها،وكان جل اهتمامها المال والرفاهية ما انعكس على الأبناء بالتالي بما خلفته من افكار وقيم سلبية كان لها مردودا خطيرا على كثير من البيوت.
النموذج السلبي تخصص به مجموعة من الممثلات لدرجة ارتباطهن بهذه الشخصية في مجمل أعمالهن السينمائية، وعند البحث فيمن أبدعن بهذا الدور ينجلي سر أو سبب تألقهن في دور الأم القاسية أو المنحرفة لما عانينه في الحياة على الصعيد الشخصي.
الفنانة زوزو نبيل ظاهرة متميزة في هذا المجال وتستحق أن يفرد مساحة كافية لها من البحث لأهمية تجربتها،ففي لقاء تلفزيوني أجراه معها الإعلامي مفيد فوزي تحدثت بمرارة عن مشوار حياتها، وهذا الحوار يكشف سبب إتقانها لدور الأم الشريرة القاسية على الشاشة الكبيرة والصغيرة أيضا، إذ كانت تفرغ كل طا?تها السلبية في التمثيل، فلقد تحدثت بحرقة كيف انها لم تعش حياة الطفولة والمراهقة والشباب أيضا.
زوجات صغيرات ..
ومن مؤشرات الطفولة القاسية التي عاشتها زوزو أن والدها بطبعه يكره خلفة البنات لدرجة انه رفض تسميتها عند ولادتها وافتقدت براءة الأطفال مع السنوات الأولى من عمرها بالتحاقها في نادي ابو سريع لرفع الأثقال !،وتم تزويجها وهي في سن الثالثة عشرة وبضعة شهور لرجل يكبرها في السن ويعمل ضابطا في سجن طره، وراح يقيد حركتها داخل البيت الذي سكنت به والمطل على على السجن الذي يعمل به الزوج،وكأن حياتها لا تختلف عن المساجين الذين تلمحهم يوميا،وأنجبت منه ولدا فكانت( الأم الطفلة) كما خاطبها فوزي، وتزوجت للمرة الثانية وعاشت مع ضرة?زوجها رغم انها تحدثت عن الألفة بينهما الا ان هذا يتنافى في اللا شعور مع طبيعة المرأة، واستشهد ابنها الوحيد في حرب أكتوبر وبدأ يقل ظهورها على الشاشة الكبيرة فيما بعد، كان لها بعض الأعمال الدرامية التي ظهرت بها في دور الأم المظلومة والطيبة، واستوديوهات التلفزيون الأردني شاهدة على ذلك، فلقد حضرت للأردن أواخر عام 1973 لتصوير مسلسل (سر الهاربة) للمخرج حسيب يوسف وفي دور البطولة والعمل من انتاج التلفزيون الأردني عن الرواية العالمية (بائعة الخبز) وفي دور الأم التي تسجن ظلما وهذا يتوافق مع شخصيتها خاصة بالفترة التي?عاشتها مع زوجها الأول وهي أشبه بالسجن كما سبق.
أم أرستقراطية..
وهذا ما ينطبق على الفنانة زوزو ماضي والتي برعت في دور الأم الأرستقراطية والمتسلطة أيضا، فهي من أسرة ثرية وتعلمت العزف على البيانو واجادت عدة لغات أجنبية، وبالتالي فدور الأم الأرستقراطية ليس غريبا عنها بطبيعة الحال، وفي ظروف مشابهة لزوزو نبيل تم إرغامها على الزواج وهي صغيرة أيضا ومن زوج لا ترغبه، وبالتالي لم تعش إحساس الأمومة الطبيعية، إنفصلت عن زوجها عام 1955 ،وفي محطة قاسية من حياتها أدينت في قضية مخدرات وأُفرِجَ عنها 1957 ،كل هذا أكسبها طابع الحدة في شخصيتها،وكما عانى من أدوا دور ابنائها من تسلطها على ال?اشة،عانت ابنتها في الحقيقة من شدة معاملتها،وهاجرت جراء ذلك لدولة أوروبية وكان للغربة ضريبة دفعتها الإبنة كما يروى.
ممثلات أخريات تألقن في أدوار الأم الشريرة ومنهن: نجمة ابراهيم وعلوية جميل وزوزو حمدي الحكيم ودولت أبيض وفي الوقت نفسه فنموذج الأم السلبية في السينما لم يأخذ حقه من الدراسة والتحليل من قبل الباحثين والنقاد، ونادرا ما تم تفسير الأسباب التي أدت لهذه التحولات في شخصيتها وربطها مع الواقع، أو استنباط الحلول والرؤى ضمن سيناريو العمل لهذا الإشكاليات الاجتماعية التي تخلفها هذه النوعية من الأمهات.
الطريق المسدود..
ولأن الشيء يعرف بضده أو نقيضه تأكيد لما سبق، يحسب للسينما المصرية بأن قدمت في أكثر من عمل وضمن الفيلم الواحد شخصية المرأة المخلصة المضحية، وفي الوقت نفسه تقابلها الأم المستهترة أو المنحرفة،والهدف هنا ابراز قيمة الأولى ودورها في المجتمع، والتنبيه للزلزال الاجتماعي المدمر التي تحدثة الأم القاسية. الأمثلة التي تدعم هذا التصور برزت في أكثر من عمل سينمائي،والنموذج الأهم جاء بفيلم (الطريق المسدود) 1958 قصة احسان عبد القدوس واخراج صلاح ابوسيف، عندما تغادر فايزة (فاتن حمامة) بيت العائلة في القاهرة هربا من امها (زوزو ماضي) المنحرفة التي تدير البيت للسهر والشرب والعلاقات المشبوهة،وتتوجه للعمل كمدرِّسة في قرية
ريفية، وتذهب لزيارة تلميذتها المريضة لتجد أم التلميذة (فردوس محمد) تصلي بهدوء وسكينة، وتشع عيناها بالطيبة والإيمان، ومباشرة وفي هذه اللحظة تستعيد فايزة الصورة المناقضة وهي تتخيل امها وفي يدها كأس الخمر وتغمز لأحد الضيوف بعينها !. بنت الحتة..
بفيلم (اليتيمتين) 1948 اخراج حسن الإمام، عاش الجمهور مع حكاية نعمت (فاتن حمامة) مجهولة الأم والأب، وتقع في قبضة رئيسة العصابة فضة (نجمة ابراهيم) التي توظف نعمت في التسول وبيع اليانصيب، وفي مشهدين متناقضين أيضا تعاير فضة ابنها حسونه (فاخر فاخر) بالإعاقة التي يعانيها في رجله، وفي الوقت نفسه تبحث الأم (عزيزة حلمي) بلهفة عن ابنتها التي خُطِفَتْ منها بعد الولادة مباشرة، وهي في الحقيقة نعمت التي تعثر عليها نهاية الفيلم.
وبفيلم (بنت الحتة) 1964 ،تسعى أم إخلاص (زوزو نبيل) الأم المسهترة لتزويج ابنتها اخلاص (زهرة العلا) من تاجر مخدرات، وتجد إخلاص الحنان في الأم البديلة أم عمر (عزيزة حلمي) بعد ان تتزوج من ابنها عمر (شكري سرحان) في النهاية.
حنان وقسوة..
فيلم شفيقة القبطية 1962 يتضمن صورة أخرى لحالتين متناقضتين من المجتمع القبطي في مصر، هما شفيقة (هند رستم) راقصة تتخلى عن ابنها عزيز (حسن يوسف)، ولكن ترعاه أمها (أمينة رزق) وتمنع ابنتها شفيقة من رؤيته وهنا يجد المشاهد نفسه أمام نموذجين للأم من جيلين مختلفين.
أما أن يجتمع النقيضان (الحنان والقسوة) في شخصية فهذا ما أبدعته الفنانة سناء جميل بفيلم (نساء خلف القضبان) 1986 وهي تؤدي دور الشاويش (طلعت) السجّانة في سجن النساء، والتي تتعامل بشدة مع ابنتيها (نادية ومنى) من باب الخوف عليهما نظرا لتعايشها يوميا مع السجينات المنحرفات، لتفاجأ في احدى المرات بإحضار ابنتها نادية (بوسي) للسجن الذي تعمل به مع مجموعة فتيات بسبب قضية أداب لُفِقَتْ لها ظلما، وهنا كانت روعة وسحر أداء سناء جميل وهي تنظر لابنتها في هذه اللحظة، وبنظرة تجمع بين القسوة والحنية في الوقت نفسه.
محاذير..
الفنانة الملتزمة التي تقدم دور الأم على الشاشة تحمل مسؤولية تجاه الأسر التي تشاهد أعمالها، ما يتطلب دقة ودراسة الشخصية التي تؤديها، ومكمن الخطورة أن نسبة كبيرة من المشاهدين سيقتنعون بموقفها حتى لو كان ذلك مخالفا للقيم الإجتماعية، ومثال على ذلك شخصية نوال (فاتن حمامة) بفيلم (نهر الحب) 1960 ،التي كانت على استعداد لترك ابنها الوحيد لتعيش قصة حب مع اّخر بحجة أنه سيحظى بأم بعيدة قادرة على العطاء بدلا من أن تكون بجانبه وهي تعيسه مع والده، فالعمل مقتبس أساسا عن رواية (اّنا كارنينا) لتولستوي، وبالتالي يعبر عن طريق? تفكير الغرب التي تتنافى مع القيم العربية، وكان على المخرج عز الدين ذو الفقار أن يقدم رؤية مناسبة أفضل من هذه. إلتزام..
سيدة الشاشة العربية استدركت هذا فيما بعد،و شاركت بأعمال قدمت من خلالها قضايا مهمة مع وضع الحلول والرؤى المنطقية لها، ومنها (امبراطورية ميم) 1972 في شخصية الأم الأرملة العاملة في وزارة التربية والتعليم، وترعى ستة من الأبناء وأغلبهم في سن المراهقة،ما يحتم عليها صرف النظر عن زواجها من رجل اعمال لتتفرغ لمتابعة شؤون أبنائها، وبروح الفنانة الملتزمة قدمت فاتن أيضا دور الأم بفيلم (أريد حلا) 1975التي تتحمل ظلم واهمال زوجها، لكنها تصبر لحين أن كبر ابنها الوحيد وأصبح مؤهلا للإعتماد على نفسه وسافر للدراسة في الخارج،وعند تلك اللحظة فقط طلبت الطلاق من زوجها.
من غير المقنع أيضا أن تؤدي شادية دور الأم الفقيرة التي تبيع ابنتها لإمرأة ثرية عاقر بحجة تأمين مصاريف ابنائها الاّخرين عبر أحداث فيلم (لا تسألني من أنا) 1984 ،وتعاطف الجمهور مع موقف شادية الغير إنساني لمجرد أنه يحب ويقدر شادية وهنا مكمن الخطر أيضا، وهذا ما ينطبق على شخصية نجلاء فتحي بفيلم (حبي لا يرى الشمس) 1980 عندما تتزوج من شخص ثري لتنجب مولودا تنسبه لزوجته الأولى العاقر مقابل مبلغ من المال كونها فتاة فقيرة ، لا خلاف ان هذه القضايا تحصل في الحياة،ولكن تحتاج لرؤية وطرح حلول منطقية في الوقت نفسه بدلاً من ?لإعتماد على نهايات أفلام تدغدغ العواطف وغير منطقية نهاية المطاف.
ويجدر التنويه أن «أمينة» أو امال زايد التي ظهرت بدور الأم المستكينة بفيلمي (بين القصرين) 1964 و(قصر الشوق) 1967 ،هذه الشخصية تستحق التعاطف معها لأنها عبرت عن البيئة التي عاشتها بفترة عشرينيات القرن الماضي وكانت المرأة لاتملك حق التعبير أو ابداء الرأي اّنذاك.
استدراك..
واحدة من الإشكاليات التي تواجهها السينما العربية الاّن ندرة الممثلات اللاتي يستطعن القيام بأدوار مشابهة لأمهات السينما زمان، ففي السنوات الأخيرة ظهرت الفنانة يسرا بدور الأم الحماة بفيلم (جيم أوفر) 2012 التي تدبر المكائد لخطيبة ابنها (مي عز الدين) لتتخلص منها، والأخيرة ترد لها المقالب أيضا، وهو الدور نفسه لميرفت أمين وخلافاتها مع زوج ابنتها (حماده هلال) بفيلم (حماتي بتحبني) 2014 ،وهي محاولة غير موفقة لتقليد أفلام ماري منيب في دور الحماة والأم بأفلام مثل: حماتي قنبلة ذرية 1951 ،الحموات الفاتنات 1953،حماتي مل?ك 1959 وحكاية جواز 1964.
وتبقى خسارة كبيرة ستمنى بها السينما العربية إن لم تستدرك الوقت بتدريس هذه النماذج من أمهات سينما الزمن الجميل في معاهد وكليات السينما على أمل بروز ممثلات يستطعن استعادة حضور الأم على الشاشة بما تستحق، فأغلب من يؤدين دور الأمهات الان غير مقنعات، والمشاهد العربي بشوق لمشاهدة هذا النوع من صدق الأداء، وفي الليلة الظلماء تفتقد الأم أو البدرُ! .