الغد-ديمة محبوبة
“إشعارات متتالية، مشاركة منشورات، ضحكات مخفية، تركيز في الأحداث المتتالية والمتسارعة، لعب، مشتريات، استماع لرسائل صوتية”، كل هذه التفاصيل، يقاطعها صوت من زاوية الغرفة “شو الأخبار صبايا؟”.
“تعدل بعض الفتيات جلستهن، ويبعدن عنهن الهواتف الذكية لوهلة، باستثناء تلك التي تضع سماعة في أذنها، فتنبهها صديقتها الجالسة إلى جانبها، التي تترك الهاتف لتسمع ما تقوله الأخريات”.
هذه الجلسة في بيت هيفاء، التي دعت فيها صديقاتها إلى العشاء، لحصولها على مكافأة في عملها، ولأنهن لم يجتمعن منذ مدة، قررت دعوتهن إلى البيت للبقاء أطول وقت ممكن.
لكن ما حدث فعلا، أن صديقاتها الخمس، لم يتواصلن معا، فكل واحدة أمسكت هاتفها، وبدأت تتواصل مع أصدقاء موجودين على السوشال ميديا، في البداية شعرت بالضيق، وحاولت نهيهن عن ذلك أكثر من مرة، حتى وجدت نفسها تتحدث مع جروب لتعلم اللغة الإسبانية، واندمجت و”كانت السهرة برعاية الهاتف والسوشال ميديا”، على حد تعبيرها، مع بعض المداخلات البسيطة بينهن.
تقول “الغريب أن صديقاتي انشغلن بهواتفهن، من دون شيء مهم، بل للدردشة والتواصل مع أصدقاء آخرين أو اللعب على الهاتف أو تصفح مواقع وسائل التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وإنستجرام”.
ما حدث مع هيفاء وصديقاتها، ليس موقفا محصورا بينهن، وإنما هي ظاهرة باتت تجتاح العالم أجمع، حتى ظهر مصطلح يفسر هذه الحالة وهو Phubbing، وهو مزيج من كلمتي phone (الهاتف) وsnubbing (الازدراء)، ويصف عملية ازدراء شخص تتحدث معه بشكل مباشر أو ضمن مجموعة، عبر استخدام الهاتف والتركيز فيه والانشغال به، متجاهلا الأصدقاء والرفقاء المحيطين به.
اختصاصي علم الاجتماع د. حسين خزاعي، يبين أن ميل الأشخاص الذين ينشغلون عن أصدقائهم بهاتفهم هو بحث عن نوع من التعزيز الاجتماعي، وبكلمات أبسط، فإن هؤلاء الذين يشعرون بنوع من عدم اليقين بشأن أنفسهم، أو كانوا في وضع قلق شديد، غالبا ما يبحثون عن دعم إضافي، وهنا يظهر دور الهاتف وأهمية التعلق به بالنسبة لهم.
ويؤكد أن الكثير من مستخدمي السوشال ميديا، وخصوصا بالتواصل مع آخرين رغم وجود أشخاص حولهم دائما، قلقون من الترك أو الضياع، فيبحثون عن دعم إضافي وأنهم موجودون في حياة آخرين، وأنهم لا يتركون طوال الوقت، فيبقون على تواصل مع آخرين عبر السوشال ميديا، غير قادرين على فصل الواقع عن العالم الافتراضي.
ويؤكد خزاعي أن التعلق بالهواتف بشكل كبير يوجد خللا في العلاقات أحيانا، خصوصا مع كبار السن، فبعض الأهالي يفرضون قانونا عند مجيء الأولاد والأحفاد، بوضع الهواتف في مكان بعيد، والعيش بشكل طبيعي والتحاور وقضاء وقت عائلي بامتياز.
والأمر نفسه يحدث بين الأصدقاء، إذ يؤثر الانشغال بمتابعة الهاتف وسط الأصدقاء سلبا على ترابط هؤلاء الأشخاص ببعضهم بعضا، فالناس يريدون أن يشعروا بأنهم مسموعون خلال المحادثات، وأن هناك اهتماما من كل الحاضرين عندما يبدأون في الكلام، وعندما لا يحدث ذلك، يقل رضاهم عن تلك العلاقة، ويبدأون بأخذ مواقف سلبية من هؤلاء الأشخاص المنشغلين بهواتفهم.
وفرض التقدم التكنولوجي وتطبيقات التواصل الاجتماعي، وتأثيرها في حياة البشر بشكل عام، ظهور مصطلحات اجتماعية جديدة، أصبح من الشائع استخدامها الآن لوصف هذه الحالة من تجاهل الآخرين والانشغال بالهاتف.
وظهر مصطلح Phubbing لأول مرة في أيار (مايو) 2012، عندما ابتكرت وكالة إعلانات أسترالية هذه الكلمة لوصف الظاهرة المتنامية المتمثلة في تجاهل الأشخاص لأصدقائهم وعائلاتهم الذين كانوا أمامهم مباشرة، وبدلًا من ذلك يتصفحون هواتفهم.
ويؤكد اختصاصي علم النفس د. موسى مطارنة، أن التعلق والارتباط بالهواتف والتواصل المستمر مع الناس عبر السوشال ميديا، يتعرض لها الكثيرون، مشيرا إلى أن هذا التعلق يهدد أربعة احتياجات أساسية، هي الانتماء، واحترام الذات، والهدف من الوجود، والسيطرة، وعندما يتجاهلك أحد ما، قد تشعر بالرفض والاستبعاد وعدم الأهمية، ويمكن أن يكون لذلك تأثير كبير على الصحة العقلية.
ويقول إن اهتمام الأشخاص بالهواتف ما هو إلا عادة معدية، فعند تعرض الشخص للخذلان أكثر من مرة بوجود المقربين مستخدمي الهواتف بشكل مستمر، يبقى هو بفراغ كبير فيجد نفسه يبحث عن عالمه المدعم له، وأنه شخص مشغول أيضا، وله عالمه ولا يستغني عنه، فهذا العالم موجود دائما، ولا يخونه ولا يهدده بالترك أو عدم المبالاة.
ووجدت إحدى الدراسات أن أكثر من 17 % من الأشخاص يقومون بهذا الفعل أربع مرات على الأقل في اليوم، وأفاد ما يقرب من 32 % من المبحوثين بأنهم يتعرضون للتجاهل من الآخرين عبر التعلق بمتابعة الهاتف من مرتين إلى ثلاث مرات في اليوم.
و”الإدمان” على الهاتف لا يأتي صدفة، إنما هو عن سبق تخطيط وإصرار حسب ما نشر على موقع “بي بي سي”، إذ قال خبراء بينهم البروفيسور، لاري روزين، المتخصص في علم النفس والباحث بأثر التكنولوجيا عليها “إن شركات الهواتف الذكية ومطوري التطبيقات يستعينون بعالم سلوكات وظيفته الأساسية هي إيجاد أفضل الطرق لجذب أنظارنا إلى الهواتف والتطبيقات المختلفة وإبقاؤنا منشغلين بها لأطول فترة ممكنة”.
ما يشير اليه الدكتور لاري روزين أن إحدى الخدع النفسية التي طبقتها شركات الهواتف الذكية والتطبيقات المختلفة بطريقة فعالة جدا، هي “الإشعارات”. فوجود هذه الإشعارات يحفز الفضول لدينا لتفقدها ومعرفة ما يوجد وراء هذه الأيقونة ذات اللون الأحمر الذي “اختير أيضا بعناية لجذب أنظارنا وتنبيهنا”. وقد تكون الإشعارات على شكل رسالة قصيرة غير كاملة أيضا لتخبرك “بأن أحدا ما قد علق على منشورك، دون اطلاعك على محتوى التعليق؛ لكي تضطر إلى فتح التطبيق نفسه في النهاية؛ وهذا بالطبع قد يدفعك بلا إدراك لتفقد منشورات أخرى وتجد نفسك مرة ثانية تقضي ساعات على هذه التطبيقات”.