عمون-أحمد سلامة
الحلقة العاشرة
ستظل لحظة وقوف الاستاذ الدكتور عبدالعزيز الخياط / عميد كلية الشريعة مساء السابع من اكتوبر / الحادي عشر من رمضان المجيد على مدخل مدرج سمير الرفاعي المدرج الاوسع في الجمعة الاولى بعمامته وجبته ووقاره… وهو يحث الطالبات والطلبة نيابة عن الاستاذ الرءيس ليتوجهوا لمستشفى الجامعة ويتبرعوا بالدم، احدى اللحظات التاريخية في حياة جيلنا..
وحين أدرك رحمه الله بكلمته المقتضبة جملته الخطيرة (الظاهر يا ابنائي أن العرب قرروا اخيرا يعملوها ويحاربوا بجد) كان الشيخ يعي ما يقول لأن الحرب في يومها الاول كانت دحرا لأساطير واستبدلت ببطولات للعرب بدت خارقة، الجيش السوري ادرك مرتفعات جبل الشيخ وضفاف طبريا، والجيش المصري اخترق بار ليف، وحط رحال دباباته شرق القنال..
كان رفعا لمعنويات العرب المطحونة والتقاطا لانفاس مضى عليها حينا من الدهر كله قهر ومذلة في الانتظار ليوم سدادة…
ادت الحرب انى اختلف الناس على نتائجها (والقفلة المذهلة التي تمت في ٢٤ اكتوبر) وتكشفت عن فضائح (شارون غربي القنال) و(ديفيد اليعازر يهدد دمشق)!!
أدت الحرب رغم ذلك الى ارتفاع معنويات العرب.. كل العرب، وانعكس ذلك مباشرة على روح الجامعة الاردنية بكل ثقل تناقضاته!!
كانت تنظيمات اليسار في الجامعة الاولى قد وطدت النفس من خلال (اتحاد الطلبة) الذي وهبه الاستاذ الرئيس عبدالسلام المجالي بنظام متقدم جدا على الاستيلاء على حلقاته، ولقد تم لهم ذلك، وتقاسم الشيوعيون والجبهة الديموقراطية على معنى حصري اغلبية المقاعد وتم ابقاء بعض المقاعد لفتح والشعبية والصاعقة… كذلك وبصورة أقل بلغت بعض كوادر طلابية محسوبة على الدولة بعض مقاعد لها
كان الثلاثي علي عامر / العلوم وسامية نفاع / التجارة وسمير صالح / التجارة، هم النجوم الابرز في قيادة الحركة الطلابية ومن بعدهم كمال عزت عودة، ومعين قسيس، وحنان تركي، وأمين العبد، وإبراهيم مهنا، ووضاح الخطيب، مثلوا خط اليسار..
كذلك، وقف نبيل مصاروة، وعبدالحميد الكباريتي، ومنذر قباعة، وحسن ابو جابر، واحمد ذوقان، وحسين الحموري، ونعيم عنيزات، كممثلين للدولة ويباهون بذلك
وكان التعايش بين التيارات المختلفة السمة العامة التي تطغى على الحركة الطلابية…
وما ان بلغت الجامعة بقياداتها الطلابية يوم الارض في الثلاثين من اذار عام ١٩٧٦ حتى قررت ان تنتقل إلى صيغة في المواجهة لم تكن مدركة لآثارها البعيدة..
في ذلك الصباح احتشد كل نجوم الجامعة الاردنية في مدرج سمير الرفاعي، وكان كل طلبة الجامعة متعاطفين متضامنين مع هذا الحدث التاريخي، وبدا ان المنظمين لذلك الحشد من الشيوعيين الممثلين لما كان يسمى (اللجنة المركزية) أي بقيادة فؤاد نصار والمعبر عنهم (القائد الابرز سمير عبد الله صالح) وكذلك (الجبهة الديموقراطية / نايف حواتمة) والذي كان يمثلها بكل ابهة امين عام الاتحاد الطالب علي عامر من كلية العلوم)
كان كلاهما يتفننان في القاء الخطابة التحريضية.. وبدا المهرجان الوطني ذاك وكل شيء عادي…
كنت من ضمن من حضر وكان عندي رأي مخالف لطريقة التنظيم، لسبب تفرد القيادتين المشار اليهما باحتكار البرنامج وكيفية صيرورته دون أخذ رأي بقية ممثلي الحركة الطلابية..
ففي صبيحة يوم الارض وكان ذلك اليوم،
كان مدرج سمير الرفاعي قد فاض عن بكرة ابيه وامتلأت الطرقات المجاورة بعشرات او مئات الطلبة، واستبعد أي تمثيل للجامعة، كان الجو حميما جدا ووطنيا جدا، وحماسيا بأكثر من اللازم… حين قدم عريف الحفل، الزميل علي عامر ومن ثم الزميل سمير صالح
كان كلا القائدين الطلابيين على درجة سامية من الادب والنبل، وكان قاموسهما يخلو من الشتائم والتخوين..
ولما ال الميكروفون، للزميل سمير صالح القى خطابا تعبويا شاملا، واختتم باقتراح انشاء صندوق طلابي للتبرع لحركة يوم الارض، كما الان اتذكر الموقف، وقفت معترضا على مقترحه وقلت له يا اخ سمير يوجد لجنة وطنية عملتها النقابات تجمع ليوم الارض فما حاجة ان نضيف لجنة الى اخرى في الجامعة.
رد سمير بقليل من الاستعلاء، وبكثير من المداعبة (زيادة الخير خير يا زميل) وابتسم وضجت القاعة مصفقة له..
ثم بعد ذلك…
جاء اقتراح ناري من الزميل معين قسيس في قسم اللغة الانجليزية وربما كان عضوا بارزا في الجبهة الديموقراطية… علينا الخروج من الجامعة والتوجه على ما اتذكر إلى السفارة الامريكية للاحتجاج…
انسحبت مجموعة اعترضت على هذا المقترح الذي بدا انتحاريا!!
وكنت من ضمنهم وتوجهنا إلى كافتيريا الآداب المجاورة نتبادل الاراء حول الذي جرى!
بدأت جموع الطلاب مندفعة بضراوة صوب بوابة القباب.. ومر من جانبنا (معين قسيس) وكانت اليافطات المعدة قبلا قد رفعت فوق الرؤوس، وهمس معين قائلا: والله يا احمد رح تدفعون الثمن غاليا لقد خذلتم الحركة الطلابية بانسحابكم
لا اتذكر انني وجدت أي شيء عندي ارد فيه عليه..
حاول ابو غازي زعيم البوابة الرئيسية ان يحوش الطلبة ويمنعهم من الخروج، لكن المد كان عاليا.. وبسرعة تجاوزوا البوابة ووقع اشتباك على ما عرفناه لاحقا مع قوات الامن، وتمت الإطاحة بالحركة الطلابية، وزجها لاحقا في السجون وصدرت بحقها احكاما طويلة الامد
عاد بعض القادة، ووسط بقايا لكمات رجال الامن انضم الينا بعضهم وتبادلنا احاديث ذات طابع نقدي بمرارة لما اتوه…
عمليا انتهت الحركة الطلابية اليسارية كاملا بهذه المغامرة الطفيلية…
تم حل اتحاد الطلبة، واستبدل بجمعيات طلابية محدودة لكل قسم، وغابت شمس الحركة السياسية ذات الطابع الايديولوجي عن ردهات الجامعة الاردنية…
بعد لقاء المغفور له الملك الحسين رحمه الله مع الطلبة لاحقا وعلى ذات المدرج وبحضور دولة احمد اللوزي والرئيس الروحي للجامعة عبد السلام المجالي وفي تأمل لملامح المغفور لها الملكة علياء رحمها الله ودهشتها مما سمعته.. تبين لكل عارف لعقل الدولة الامني والسياسي، أن الجامعة قد ذهبت إلى مرحلة اخرى وإلى عقد آخر حين اخذ الحسين رحمه الله نفسا عميقا من سيجارته، ودقق في الملامح ورد على احدى المداخلات بقوله (شيء جميل ان يكون الانسان فدائيا ومناضلا، ولكن عليكم أن تقرأوا الحقيقة ولا يرى نصف الكأس ثمة كأس يحتاج ان يرى بالكامل لان الحقيقة لا تتجزأ)
وختم يرحمه الله (واسمح لي ان استخدم نفس الهدف الذي اجزته لنفسك)
كان الحسين قد اخذ قراره… لا يسار في الجامعة ولا سياسة محتدمة ومضطربة