ألعاب الفيديو.. حينما تصبح المتعة مدخلا للتطرف والانحراف الفكري
الغد-تغريد السعايدة
مشاهد لا تمحى من ذاكرة ملايين المشاهدين، الذين تابعوا مقاطع مصورة لشاب يرتدي كاميرا ويحمل سلاحا أوتوماتيكيا، متوجها إلى مجموعة من المصلين في أحد مساجد أوروبا، ليبدأ بإطلاق النار بشكل يجعل من يشاهد الفيديو يظن أنه أمام مشهد من لعبة إلكترونية، حيث تختفي معاني الألم والصراخ والموت.
هذه المقاطع المروّعة ليست سوى واحدة من العديد من اللحظات الدامية التي تعكس واقعا نفسيًا خطيرا يعيشه بعض الأفراد. إنها نتيجة إدمان الألعاب الإلكترونية التي تتسم بالعنف، والانجراف وراء أفكار متطرفة تغذيها جهات أو منظمات تستغل هذا الإدمان لبث أفكارها السامة.
في هذه الألعاب، يجد اللاعب مساحة لتفريغ طاقاته السلبية، مما ينعكس على واقعه ومحيطه، ليصبح شخصا عنيفا متطرفا في أفكاره وسلوكه.
نتيجة لتوالي العديد من الأحداث المتسلسلة، وانجراف نسبة كبيرة من الشباب خلف أفكار غريبة ومتطرفة بمختلف التوجهات، حذّر العديد من علماء النفس والتربويين من خطورة تحول هؤلاء الشباب إلى أهداف سهلة للتجنيد من قبل منظمات متطرفة أو إرهابية. تعتمد هذه المنظمات على أساليب مدروسة تستغل فيها شخصية الفرد ونقاط ضعفه، فتعمل على استقطابه بطرق مخطط لها بدقة لتحقيق أهدافها.
يواجه الأهل تحديات كبيرة في التعامل مع أبنائهم المدمنين على الألعاب الإلكترونية، خاصة مع التطور السريع لهذه الألعاب، لا سيما تلك التي تعتمد على تقنيات الواقع الافتراضي أو الألعاب ثلاثية الأبعاد (3D)، حيث يعيش الطفل أو الشاب تفاصيل الجرائم والعنف بشكل شديد الواقعية. هذا الانغماس العميق يجعلهم أكثر عرضة للانجراف نحو تجارب جديدة ومثيرة، بعيدًا عن واقعهم المألوف.
أظهرت العديد من التقارير المنشورة بيانات وأرقاما تحذر من خطورة الألعاب الإلكترونية على الشباب واليافعين. وتشير دراسات متخصصة إلى أن الفئة العمرية بين (18-35 عامًا) هي الأكثر تأثرا. من بين هذه التقارير، ما نشره الاتحاد الأوروبي حول استغلال ألعاب الفيديو ومنصات الألعاب بشكل متزايد للترويج للفكر المتطرف، خاصة مع ازدياد هذه الظاهرة بعد جائحة كورونا التي شهدت ارتفاعا كبيرا في عدد مستخدمي الألعاب الإلكترونية. وقد دفعت هذه التطورات الجهات المختصة إلى متابعة مصادر تلك البرامج وملاحقة كل من يحاول استغلالها لنشر أفكار متطرفة قد تصل إلى حد الإرهاب والجريمة.
وفي هذا السياق، يقول مستشار أول الطب الشرعي والخبير في مواجهة الجريمة والعنف والإرهاب، الدكتور هاني جهشان، إن التكنولوجيا الرقمية خلال العقود الماضية سهّلت الوصول إلى الألعاب الإلكترونية بمختلف أشكالها وتنوع محتوياتها، مما أدى إلى إدمان الشباب واليافعين على هذه الألعاب. وأوضح أن هذا الإدمان يترتب عليه مخاطر نفسية واجتماعية واقتصادية.
وبناء على العديد من التقارير والدراسات السلوكية التي تتعلق بعلاقة بخطورة هذه الألعاب الرقمية الحديثة في التكوين النفسي والسلوكي للأفراد، يقول جهشان إن لها الكثير من أوجه الخطر المحتملة، ومنها أنها تتيح التواصل المباشر من قبل اللاعبين مع بعضهم البعض، بالصوت والصور، بل يمتد للتواصل عبر المواقع الاجتماعية وهذا يسهل على الجماعات المتطرفة التوصل مع الشباب واستغلالهم. بالإضافة لذلك، يعتقد جهشان أن محتوى الألعاب الإلكترونية يشكل عاملا مهما لمخاطر الفكر المتطرف، واحتمال التجنيد في الجماعات الإرهابية والعصابات، فالمحتوى العنيف يحظى بشعبية واسعة تمنح اللاعبين شعورا بالعظمة والإثارة والهروب من الواقع، وهذا المحتوى يساهم في الترويج للأفكار المتطرفة والشعور الوهمي بالقوة والغلبة على الآخرين وفرصه لاستغلال ظروف الشباب مثل البطالة والفقر والفراغ والتهميش الاجتماعية لجذبهم نحو التطرف وتجنيدهم في الجماعات الإرهابية والعصابات الجرمية، خاصة أن منهم من يبحث عن العلاقات مع الآخرين، هربا من الواقع الاجتماعي الذي يعيشونه، وهذا يساهم في تجنيد المنعزلين اجتماعيا والذين يكون لديهم استعداد أكبر للاندماج في هذه الجماعات.
وهنا تحذر الاختصاصية النفسية والتربوية الدكتورة خولة السعايدة، كذلك أن هذه الألعاب التي يمارسها الجميع ليس فقط محصورة في أعمار معينة، بمعنى أن اللاعب قد يكون شخص واع ومتيقن لكل ما يجري في اللعبة التي يتشاركها مع الآخرين، ويبادلهم ذات الحديث والأفكار ويعتاد على مصاحبتهم "افتراضياً" وهذا قد يدفع الكثيرين بالتخلي عن باقي العلاقات الاجتماعية والاكتفاء بأصدقاء الألعاب الإلكترونية.
كما ترى السعايدة أن غالبية المشاكل التي تقع من جراء الألعاب الإلكترونية بمختلف أشكالها قد تكون نابعة من الرغبة في التقليد، والذي عادة ما يكون لدى فئة معينة من الأشخاص تقليد أعمى لا يعي فيه اللاعب مدى خطورة ما يقوم به من أفعال تبدأ من التسلية والترفية والتساهل بمعطيات الألعاب حتى تصل إلى حد الإدمان والانصياع للأوامر التي قد يتلقى اللاعب من الآخرين مقابل الحصول على الكسب المادي أو المعنوي في الألعاب.
"التعود والإدمان على اللعبة"، قد يعتبره جهشان من العوامل التي تتيح سهولة النفاذ إلى اللاعبين بهدف تجنيدهم ونشر الأفكار المتطرفة بينهم، حيث إن المحتوى الدعائي للألعاب يروج بشكل مباشر للفكر المتطرف والتنظيمات الإرهابية، من خلال عرض مواد تستغل المشاعر والعواطف لغسل الأدمغة مما يجعلهم فريسة سهلة للتجنيد، وقد يتم الاستدراج من خلال وسائل مباشرة مثل عرض الأموال على سبيل المثال.
ولكل الأهل وأولياء الأمور الذين يتيحون لأبنائهم ممارسة تلك الألعاب، أو قد يكون الأب بنفسه من يدخل في تلك المنافسات، فإن من شأن المتابع لهم أن يراقب ويلاحظ بعض من التغيرات التي تحدث لهم والحذر قبل الوقوع في براثن الجماعات المتطرفة، أيا كانت، ومن ضمن تلك التغيرات أو "الأعراض" كما يسميها جهشان، هي أعراض نفسية مثل "الشعور بالتوتر، الكرب، الغضب، الإحباط عند عدم القدرة للنفاذ لجهاز اللعب، والشعور بسلام والطمأنينة أثناء اللعب.
كما يمكن أن يلمس المراقب للاعب أنه عند العودة للمنزل يتوجه للعب بشكل قهري، ولساعات طويلة بدون نوم، والانفعال وفقدان السيطرة على الكلام والحركات أثناء اللعب، وتوتر في حال انقطع الإنترنت، والانهماك بأحداث اللعبة، وتكرار مشاهد اللعبة في أحلام اللاعب، والانعزال الاجتماعي غير مبرر، عدا عن الكثير من الأعراض الجسدية الأخرى التي تُظهر تغير في حياة الشخص.
وتُشكل الألعاب الإلكترونية خطرا كبيرا على السلوك في وقت لاحق وارتكاب عنف الفتيان والعنف الجماعي، وهو ما يحذر منه العديد من اختصاصي السلوك وعلم النفس والاجتماع على حدٍ سواء، إذ يُعد الانعزال الاجتماعي المستمر وفقد الأصدقاء وغياب التواصل الأسري سبباً للاكتئاب وفقد المهارات الاجتماعية الطبيعية.
وقد تكون الفئة الأكثر تقليداً للألعاب والعنف الذي يدور فيها، هم الأطفال أو اليافعون أو ممن يعانون من مشاكل نفسية أو أسرية، وحتى اجتماعية، كما في حالات التنمر الذي قد يتعرض لها الأطفال، وهنا يبدأون بالبحث عن طريقة أخرى لإثبات الذات ومحاولة تقليد هذا العنف والذي قد يصل إلى حد التطبيق على أرض الواقع.
هذا التطبيق، يعني في هذه المرحلة أن الشخص بات عنيفاً ولديه روح الإجرام أو الانتقام من الآخرين، وكثيرة هي الحالات التي تداولها مواقع ومحطات إخبارية، تنقل مدى خطورة بعض الجرائم والتي قام بارتكابها يافعون وأشخاص من أعمار صغيرة، وقاموا بتطبيق تلك الجرائم بشكل كبير كما شاهدوها عبر منصات التواصل الاجتماعي أو مقاطع الفيديو والألعاب الإلكرتونية على وجه التحديد.
"الحلول متوفرة لدى الأهل ويجب الوقاية من الوقوع في فخ الألعاب الإلكترونية العنيفة"، كما تقول السعايدة، وهذا يحتاج إلى وعي وإدراك من الأهل بخطورتها، ومراقبة الأبناء بشكل دائم ومنعها إن تطلب الأمر ذلك، وأن يكون هناك بدائل سواء للأطفال واليافعين، وحتى الكبار منهم، حيث إن الكثير من الجهات المختصة تبث دائماً نصائح وإرشادات تحذر من خطورة هذه الألعاب ومدى قدرتها على تغيير الحالة النفسية والاجتماعية والأسرية للإنسان إن وصل إلى حد الإدمان.
وقد يتفاجأ الأهل، أو اللاعب المدمن أنه بحاجة للمال دائماً بسبب حاجة الألعاب والتطبيقات أحيانا للدفع المالي، وهذا قد يدفع اللاعب إلى البحث عن مصدر مالي في بعض الأحيان، بعيداً عن استهلاك الوقت وضعف القدرة على التركيز على التعليم، للطالب، في حين هناك عواقب مهنية تشمل غياب القدرة على التركيز وعدم الالتزام بالدوام والفشل في إنجاز الواجبات المهنية، وأسرياً قد نلحظ الكثير من اضطراب العلاقة الأهل، وقد يتفاقم ذلك ويتحول "لعنف أسري بكافة أشكاله".
وفي النهاية، يوضح جهشان للأهل، والجهات الرسمية، على حد سواء، دورهم الكبير في الوقاية من الانجرار خلف التطرف الفكري والسلوكي، وذلك من خلال "تنبيه الشباب لخطورة هذه الألعاب، وطلب المساعدة من مختصين في بعض الحالات المرتبطة بحصول الاكتئاب أو التعود على العقاقير والمهدئات، والتوعية العمومية للمجتمع بحيث تكون مستدامة وتتحمل الحكومة مسؤوليتها ورصد نتائجها".
كما يجب أن يكون هناك إجراء رسمي وصارم اتجاه الشركات المنتجة لهذه الألعاب، كما يقول جهشان، على الرغم من أن منعها غير مُجدٍ بسبب صفتها العابرة للدول، وبسبب صعوبة حجبها على الإنترنت، وتوفر برامج بمبالغ زهيدة لتجاوز أي حجب لها على الإنترنت، حيث من المتوقع أن تضع الشركات المصنعة للألعاب الإلكترونية العمر المناسب للشخص المستهدف باللعبة.
هذا الأمر يصعب تطبيقه بحسب جهشان، بسبب "بيع جزء كبير من هذه الألعاب في محالات "السي دي" التي لا تلتزم بحقوق الملكية الفكرية مع غياب الرقابة، عدا عن إمكانية الأشخاص شراء الألعاب عن طريق الإنترنت أو بتحميلها من مواقع غير مرخصة.