عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    31-May-2019

مدفع رمضان في عمان:صوت متجدد قادم من التاریخ

 

وليد سليمان
عمان - الراي - عاد الى عمان مدفع رمضان الجميل مع الذكريات والزمن الندي. فقد كان المدفع من رموز المودة والقلوب البيضاء، وفرح الصغار والكباربصيام شهر رمضان.
فبعد انقطاع لسنوات طويلة.. ها هو مدفع الافطار الرمضاني ينطلق من جبل القلعة في عمان في أيام شهرنا الفضيل هذا، مِن على جبل القلعة التاريخي المطل على معظم أنحاء عمان القديمة، وذلك بالتعاون ما بين أمانة عمان الكبرى ووزارة السياحة والقوات المسلحة الأردنية. وقبل نحو مئة عام؛ كان مدفع رمضان قد تم اعتماده في الأردن منذ بداية عهد الامارة كمؤشر لحلول وقت الافطار، واصبح فيما بعد شعيرة ثابتة من شعائر شهر رمضان في المملكة الاردنية الهاشمية.
ترقب وفرح
كأنه شيء ضائع ورجع إلى أصحابه بسلام وفرح بعد مدة طويلة من الزمن.. وببهجة ودهشة استقبل المواطنون في عمان عودة - أحد مظاهر الاحتفاء المهيب بحلول شهر رمضان المبارك - إطلاق القذائف المدفعية كل يوم عند بدء حلول المغرب، أي وقت الافطار للصائمين.
اما ما كان، قبل نحو خمسين سنة، فقد توقفت عادة إطلاق المدافع الرمضانية في عمان، التي كانت تنطلق من أعلى قمة جبل القلعة الشهير - قلعة عمان -.
وربما كان السبب في ذلك ان وسائل الاتصال ومعرفة الوقت والتوقيت قد أصبحت عامة ومنتشرة ومتعددة، من ساعات اليد إلى المنبهات إلى مكبرات الصوت في المساجد، كذلك انتشار الاذاعات وقنوات التلفزيون، وأخيراً الانترنت وأجهزة الخلوي التي جميعها تشير إلى أوقات الافطار الرمضاني بدقة متناهية.
وقد استهجن قديماً الكثير من أهالي عمان عندما توقفت مدافع جبل القلعة في رمضان عن إطلاق مدافعها، وعلى غياب هذه العادة الجميلة، وقد نشأ حبهم هذا لأيام رمضان ولياليه المباركة ومواقيته بترقب ضرب مدفع الافطار.. وفرحة الصغار التي لا توصف حال سماعهم هذه الاصوات المدوية المحببة.
دخان ونار ومدفع
أذكر أنني كنت وأولاد الحارة في منطقة رأس العين، نخرج إلى المرتفعات الجبلية والصخرية القريبة من بيوتنا على سفح جبل النظيف، وأحياناً كنت وأخواني نلعب بعض الألعاب الشعبية في ساحة البيت، وذلك ريثما يضرب مدفع الافطار مع غياب الشمس من جبل القلعة، حتى ندب الصوت وكل الصغار في مناطق النظيف والمهاجرين ورأس العين قائلين: (هيييي هيييي) عدة مرات بأصوات مرتفعة.
ثم نهرول بعدها إلى بيوتنا لموائد الافطار نلتهم أطيب الأطعمة والتسالي والحلويات، وبعض الحاجيات الخاصة التي كان كل واحد منا أولاداً وبناتاً قد اشتراها وحضَّرها ليأكلها بعد الافطار لوحده.. أو بالمشاركة مع إخوانه مثل: البزر والفستق والعوامة والملبس والمخلوطة والبوشار.
في الجوفة باتجاه القلعة
وكنت عادةً أذهب في رمضان عند بعض أفراد أسرتي المتزوجين القاطنين في جبل الجوفة.. وهناك كنت أعيش عملية ضرب المدفع الرمضاني بشكل مباشر بالعين المجردة، رغم بُعد المسافة، ولكن الى حدٍ أنك ترى النار والدخان! وتسمع الصوت المدوي لهذا المدفع.. ونكون بعد دقائق على مائدة الافطار.
وكنت أعتبر عائلة شقيقتي أنهم محظوظون بمشاهدة وسماع المدفع يومياً في رمضان.
وحكاية المدفع وصوت قذائفه ظلت هامة ومؤثرة في نفوس ومشاعر الصائمين كباراً وصغاراً في عمان- حيث كانت تطلق المدافع الرمضانية في عدة مدن اخرى غير عمان مثل: اربد والسلط والرمثا والكرك.
فهناك أيضاً إطلاق للمدافع عند بدء إثبات ظهور هلال رمضان، واطلاق للمدافع عند بدء حلول عيد الفطر السعيد، وفي أيام العيد كذلك.
ولقد كان لسماع أصوات المدافع وقع خاص!! فيه فرح ونشوة لا توصف للناس جميعاً..
وهي إشارات مهمة على بدء الشهر وانتهائه وحلول الافطار والامساك والأعياد المباركة..
حتى يقوم الناس بالتحرك وتجهيز أنفسهم بشكل ضروري.
فعند سماع مدافع العيد يهرع الناس إلى الاسواق لشراء مالم يشتروه وكان مؤجلاً منذ أيام مثلاً.
ذكريات مدافع عَمَّانية
وعن مدافع رمضان قبل خمس أو ست سنين - تجربة لم تُكرر إلا هذه السنة 2019 -أذكر أنها كانت موزعة في ثلاث مناطق متباعدة عن بعضها.. لتشمل كل مناطق عمان في إسماعها صوت المدافع لسكان العاصمة وهي المناطق التالية:
من منطقة جبل القلعة، ثم منطقة الاشرفية قرب جامع ابي درويش، ثم منطقة دابوق قرب مسجد الملك الحسين بن طلال طيب االله ثراه.
وبذلك فاننا نحافظ على إرث عربي اسلامي واجتماعي متوارث وجميل يتشوق إليه الناس والصائمون.. كضرب المدفع وأكل القطايف، وإظهار الزينة الليلية من أهلة ونجوم وفوانيس وإقامة موائد الرحمن وعزائم الأرحام.
محمد علي باشا
وضرب المدافع في رمضان عادة اسلامية قديمة ظهرت في مصر ام الدنيا قبل نحو 500 عام أو اكثر.
ويرجع ذلك إلى أيام حكم محمد علي باشا الكبير لمصر.. حيث كان قد اشترى عدة مدافع حربية حديثة للجيش المصري.. وأراد في أحد الأيام في رمضان ان يجرب أحد هذه المدافع!
فانطلق صوت المدفع مدوياً في نفس لحظة غروب الشمس وأذان المغرب من فوق القلعة الكائنة حالياً في نفس مكانها في حي مصر القديمة جنوب القاهرة، فتصور الصائمون أن هذا تقليد جديد، فطلبوا من الحاكم أن يستمر في هذا التقليد خلال شهر رمضان في وقت الإفطار والسحور فوافق.
ثم تحول إطلاق المدفع بالذخيرة الحية مرتين يومياً لظاهرة رمضانية مرتبطة بالمصريين كل عام، ولم تتوقف إلا خلال فترات الحروب العالمية.
الوالي خوشقدم!!
وفي ورواية أخرى عن المدفع، وارتبطت الحكاية بِ (الحاجة فاطمة) عام 859 هجرية.. ففي
هذا العام كان يتولى الحكم في مصر والٍ عثماني يدعى «خوشقدم»، وكان جنوده يقومون باختبار مدفع جديد جاء هدية للسلطان من صديق ألماني، وكان الاختبار يتم أيضاً في وقت غروب الشمس، فظن المصريون أن السلطان استحدث هذا التقليد الجديد لإبلاغ المصريين بموعد الإفطار!!.
لكن عندما توقف المدفع عن الإطلاق بعد ذلك ذهب العلماء والأعيان لمقابلة السلطان لطلب استمرار عمل المدفع في رمضان فلم يجدوه!! والتقوا بزوجته التي كانت تدعى الحاجة فاطمة التي نقلت طلبهم للسلطان، فوافق عليه، فأطلق بعض الأهالي اسم الحاجة فاطمة على المدفع، واستمر هذا حتى الآن: إذ يلقب الجنود القائمون على تجهيز المدفع وإطلاقه الموجود حالياً بنفس الاسم.
ويقول الباحث د. عبداالله رشيد في كتابه عن عمان بفترة الاربعينيات:
«.. وعندما كان يحين موعد الغروب في عمان كان الاطفال يتجمعون في الاماكن العالية من الحارات ليمكنهم من مشاهدة مئذنة الجامع الحسيني الطويلة، ومدفع جبل القلعة الذي يخرج صوتاً هائلاً عند بدء أذان المغرب للافطار»، وكان الاولاد والبنات والصبيان يصيحون عند سمع اصوات المدفع بصوت واحد:
وَلّع ضَوْ
قال المدفع
ولِّع ضوْ طَفّي ضَوْ بَوْ بَوْ
عَلى راس العدوْ
وحين تُضاء مئذنة الجامع الحسيني، كان الجنود فوق قلعة عمان يتراكضون فمعنى ذلك ان اللحظات قد اقتربت لاعلان موعد الافطار الرمضاني.
فقد جرت العادة ان يقوم الجنود الرابضون في القلعة بحشو المدفع بالبارود وقطع القماش البالية، وقبل أن ينفجر البارود يهرولون مبتعدين عن المدفع، وكان هذا المنظر يشاهده معظم سكان مدينة عمان القاطنين قبالة جبل القلعة.
رمضان كريم
وكانت التقاليد السائدة في عمان قديماً ان تقوم كل عائلة ميسورة بذبح ذبيحة لتوزيع بعض لحمها على الفقراء، وطبخ البعض الآخر في اول ايام رمضان.
وفي كل الاحوال كان لا بد من شراء اللحم او ذبح الدجاج، وبخلاف ذلك فان (غرة رمضان)
تزعل على العائلة!!.
وحسب المأثورات الشعبية: ان الملائكة تزور البيوت في غرة رمضان، أي اول يوم في رمضان، فتكشف عن قدور الطبيخ، فان وجدت فيها اللحم قالت: «إن شاء االله ان شاء االله كل سنة كل سنة»، واذا وجدت ان الطبيخ من مادة ادنى من اللحم قالت ايضاً: «إن شاء الله كل سنة كل سنة»، فالمأثورات الشعبية التي يتغنى بها الناس حول مادة اللحم في رمضان انما هي تعظيم لظاهرة العطاء التي يتحلى بها بعض الميسورين في العطف على الفقراء والمساكين