ما بين الداخل والخارج| د. محمد أبو رمان
الدستور
عمون
هل يملك الأردن أن يعزل نفسه عن المحيط الإقليمي الملتهب، ويتوجه إلى الملفات الداخلية، بوصفها الأكثر أهمية؟! هذا الطرح ممكن لو كنا نتحدث عن جيوبوليتيك مختلف، أقل اضطراباً وتوتراً أو دولة كبيرة محاطة بدول صغيرة؛ لكن في الحالة الأردنية فكل ما يحدث في الإقليم ينعكس على المصالح الاستراتيجية والوطنية الأردنية، ليس فقط على صعيد الأمن القومي بالمعنى الضيّق، بل على الجوانب الاقتصادية والسياسية والثقافية والمجتمعية بصورة عامة، فالسياسة الأردنية بنيت – تاريخياً- على هذا التشابك والتفاعل الاستراتيجي واليومي..
أحد السياسيين الأردنيين البارزين يلخّص ما سبق بجمل مهمة ومفتاحية في فهم الديناميكيات الحاكمة للسياسات الوطنية، يقول « كدولة صغيرة الحجم في منطقة إقليمية ملتهبة ومتوترة، تصبح التكتيك استراتيجية والاستراتيجية تكتيكاً»؛ وقد أظهر الأردن براعة كبيرة في التعامل مع الأزمات الإقليمية المحيطة والتكيّف مع الظروف المتغيرة، والنجاة من منعرجات خطيرة تاريخياً، وقعت فيها نظم وحكومات عاتية، بينما لم ننجح – بالدرجة نفسها- في بناء خطط استراتيجية طويلة المدى، سياسياً أو اقتصادياً عابرة للحكومات ومستدامة، فمردّ ذلك – تفسيراً وليس تبريراً- إلى أنّ الأزمات والحروب والصراعات تعصف بالمنطقة بصورة مستمرة، مما يبدل الأولويات والتحديات والمحددات المحيطة بصناعة السياسات الوطنية..
في العام 2005 تخرج الأردن من أحد البرامج الرئيسية في صندوق النقد الدولي ووصلت معدلات النمو 2006-2008 إلى 6-8%، (كما يستعرض ذلك رئيس الوزراء، د. جعفر حسّان، في كتابه المهم «البناء في رحم الأزمات»- الذي كتبه قبل أعوام)؛ ثم في مرحلة لاحقة مع الأزمة المالية العالمية، ثم الربيع العربي، فالارتفاع الهائل والكبير في أسعار الطاقة والغاز، عادت المعاناة الاقتصادية، فضلاً عن موجات اللجوء والهجرة التي أتت إلى الأردن بصورة مستمرة، التي زادت من كلفة الخدمات والبنية التحتية، كما مرّ الأردن بمرحلة أشبه بالحصار الاقتصادي وتضرر الكثير من القطاعات الاقتصادية، مع تدهور الأحوال في سورية والعراق خلال تلك السنوات، مما أثر كثيراً على الاقتصاد الأردني.
في مرحلة ما قبل الحرب على غزة؛ وصلت السياحة في الأردن إلى معدلات قياسية، غير مسبوقة، لكنها عادت بسبب الحرب إلى التراجع بدرجة كبيرة وتم إلغاء الحجوزات، وعادت المعاناة للقطاع السياحي، الذي شكّل رافعة مهمة خلال السنوات الماضية، على صعيد المساعدات والبنية التحتية التي كانت تتولاها الوكالة الأميركية للتنمية، وتساهم في تشغيل مئات الأردنيين وتوفر مشروعات في مجالات متعددة تراجعت مع إدارة ترامب، وهكذا يمكن تطبيق هذه القاعدة الذهبية على مختلف القطاعات، سواء على صعيد مباشر أو غير مباشر، فما سميت بحرب الشمال (على حدودنا الشمالية مع تجار المخدرات خلال الأعوام الأخيرة من حكم نظام الأسد) شكلت عبئاً عسكرياً وأمنياً كبيراً على الأردن، وبالضرورة مالياً أيضاً..
الوضع اليوم في الضفة الغربية خطير، والأمور تتدحرج نحو مسار أكثر سوءاً، مع سياسات إسرائيل في الضفة الغربية والقدس، التي ستصل إلى مرحلة غير مسبوقة بعد وقف إطلاق النار في غزة، وملف الضفة الغربية يمثّل بالنسبة للأردن مسألة أمن قومي من الدرجة الأولى ترتطم بالمصالح الحيوية والاستراتيجية، على مختلف الصعد، وهي جزء من المكانة الاستراتيجية الإقليمية والدور الإقليمي التاريخي الأردني ومسألة خارجية وداخلية في آنٍ معا؛ مما يعني أنّ الأردن لا يستطيع أن يدير ظهره إلى ما يحدث هناك، بحجة الأولويات الوطنية، ويقول لا علاقة لنا! لأنّ مثل هذه المقاربة ليست واقعية ولا منطقية بالنسبة للأردن.
إذاً لا غنى عن الاشتباك الفعال الإيجابي اليومي والاستراتيجي مع الملفات الإقليمية المحيطة في الأردن، وهي بالنسبة للمصالح الأردنية حيوية ومؤثرة، وتتطلب تطوير عمل مؤسساتي ضخم؛ يشمل وزارات الخارجية والمؤسسات العسكرية والأمنية ومراكز التفكير والأبحاث لبناء أجندة وطنية أردنية مرنة في التعامل مع المتغيرات الإقليمية وبحث السيناريوهات والخيارات الاستراتيجية والتكتيكية، من جهة، وبناء مقاربة داخلية مرنة في التعامل مع المحيط الإقليمي، وتوزيع الأدوار بين الجهات والمؤسسات المختلفة لتقوم بمهمات ومسؤوليات متكاملة وليست منعزلة فيما بينها لتطوير سياسات تنموية واقتصادية وخدماتية وحتى سياسية مرنة مبنية على خبرة وطنية طويلة مع التعامل مع منطقة الزلازل السياسية المحيطة..
"الدستور"عمون