الراي
في سبعينيات القرن الماضي، بدأت الأصوات تهمس بمصطلح (موت الأيديولوجيا)، وهو مصطلح تبناه أشخاص يرون أن سبب الشرور التي وقعت في القرن العشرين هو (الأيديولوجيا)، معتبرين أن الشيوعية والاشتراكية بما تمثلانه من (أيديولوجيا) دفعت العالم إلى حروب ودمار كان من الممكن ألا يحدثا لو لم تسيطر (الأيديولوجيا) على المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي المركب.
وما إن سقط الاتحاد السوفييتي ووضعت الحرب الباردة، والتي لم تكن باردة فعلاً، أوزارها، حتى علا صوت المنادين بـ(موت الأيديولوجيا)، محاولين التناسي أن المنظومة الغربية تتبنى أيديولوجيا توصف يالليبرالية، ولهذه الايديولوجيا منظرون ومفكرون، ولها أدوات تنفذها على الأرض.
في الأردن تم تبني نظرية (موت الأيديولوجيا)، وأصبح مصطلح الأيديولوجيا مصطلحاً مشيطناً، وتدريجياً لم يعد من يعملون في حقول السياسة الاقتصاد والاجتماع والثقافة يملكون أيديولوجيا واضحة، فظهرت حالة من الضياع الأيديولوجي والفكري، ولم نعد، في نقاش القضايا العامة، نستند على مفاهيم أيديولوجية واضحة.
ومع عودة نشاط الأحزاب، بعد مخرجات اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية، حصلت حالة من تفريخ الأحزاب غير الأيدولوجية، تحت عنوان الأحزاب البرامجية، ولضحالة الحالة السياسية في الأردن، ظن الحزبيون الجدد أن مصطلح الحزب البرامجي يحل محل الحزب الأيدولوجي، متناسين، وربما غير عارفين، أن البرامج الحزبية هي أدوات تنفيذية للأيديولوجيا، ولا يمكن أن يملك أي حزب برنامجاً إن لم يكن يملك أيديولوجيا.
والغريب في عالم السياسة السوريالية الأردنية هو أن الأردن يهرب من الأيديولوجيا في حين أنه محاط بمشروعات أيديولوجية ضخمة، فإيران مشروع دولة مبني على أيديولوجيا، وتركيا مشروع إقليمي كانت قوته في الأيديولوجيا، وسحب هذا المشروع حين تنصل زعيمه رجب طيب إردوغان من الأيديولوجا، وحزب الله مشروع أيديولوجي، وكذلك حركتا حماس والجهاد الإسلامي.
وفي ظل غياب الأيديولوجيا عن الأحزاب في الأردن، يبقى حزب وحيد يسند ظهره للأيديولوجيا، وهو حزب جبهة العمل الإسلامي، ويحاول أيديولوجياً تجيير الحرب الصهيونية الغاشمة على غزة سياسياً لمصلحته، والحضور في الشارع بخطاب ذي أصل أيديولوجي.
اليوم تواجه الأحزاب إشكالية حقيقية ناتجة عن غياب الأيديولوجيا أو تكلسها، فالأحزاب اليسارية والقومية تبدو عاجزة عن تنزيل أي تحديث على أيديولوجيتها، فتبدو أيديولوجيتها قديمة وعفا عليها الزمن، وغير جاذبة لجيل الشباب، مصطلحاتها مقعرة، وهي غير قادرة على معالجة القضايا المحلية والإقليمية، ولا تبدو أنها نابعة من موطنها.
أما أولئك الذين مالوا من اليسار إلى يسار الوسط، فيبدون تائهين غير قادرين على توضيح أيديولوجيتهم، إن امتلكوها أصلاً، وغير قادرين على تقديم تصور سياسي اقتصادي اجتماعي متماسك، فيبدون غير مقتنعين بما يقدمونه من شعارات، ولا يشتبكون مع المجتمع لتطوير المنظومة الاجتماعية، فصاروا بلا لون حقيقي، أو موقف واضح.
أما ما يُطلق عليه جزافاً اليمين الأردني، فهو حالة مهجوسة بأنها حامية الهوية الوطنية، هذه الهوية التي يرونها هشة، لدرجة أن أي تحرك يهددها، ولكن لا يقدمون أي تصور ناضج حول القضايا الجوهرية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً.
اليوم جميع الأحزاب مطالبة بتقديم منطلقاتها الفكرية لمعرفة أين تقف هذه الأحزاب، ولمعرفة إن كانت ما تقدمه من برامج، إن وجدت، تتوافق مع منطلقاتها الفكرية، وأنها قادرة على تبنيها فعلاً ومن ثم قادرة على تنفيذها.
الأيديولوجيا لم تمت، ما زالت حية وستبقى، وعلى الأحزاب ألا تجعل عجزها عن تقديم تصور أيديولوجي متماسك، لغياب المنظرين والمفكرين فيها، سبباً لإعلان وفاة لم تحدث أصلاً.