عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    12-Jul-2024

«فرانكشتاين في بغداد» بين نظرية الفوضى والواقعية السحرية

 الدستور-غسان إسماعيل عبد الخالق

ستظل رواية «فرانكشتاين في بغداد» للكاتب العراقي أحمد سعداوي، موضع دراسة وتأمّل النقّاد؛ ليس لأنها حازت جائزة البوكر العربية في العام 2014، بل لأنها تمثل قفزة عالية في عالم السرد العربي ما بعد ما بعد الحداثي، ولأن كاتبها المولود في العام 1973 أكّد حقيقة أن الكاتب الثلاثيني الشاب، يمكنه أن يختزن قدراً كبيراً من المعرفة والحكمة والفن، وأن يعيد صياغته وتشكيله عبر رؤية روائية مؤلمة وفاتنة في آن واحد.
يمكن تلخيص الرواية (فرانكشتاين في بغداد) على النحو التالي: بغداد في العام 2006 وطبول الحرب الأهلية تُقرع. ثمة العديد من المغامرين الكبار والصغار الذين حضر بعضهم إلى بغداد خصيصاً، من أجل البحث عن كل الأكتاف القابلة للأكل، فيما أن بعضهم الآخر موجود فيها منذ عقود، وقد لاحت له الفرصة كي يأكل ما تيسر له من الأكتاف أيضاً.
بغداد مرهقة جداً بحَرّها اللاهب ومقاهيها العتيقة وفنادقها المتهالكة، وسادتها الجدد من قوات الاحتلال الأميركي الذين يتحكّمون بخيوط اللعبة، عبر مكاتبهم المحصّنة والمكيّفة في المنطقة الخضراء. ومن بين كل الشخصيات التي تمور بها الرواية يبرز: محمود السوادي الصحفي الشاب القادم من جنوب العراق بحثاً عن فرصة عمل في الصحافة، والذي سرعان ما يفقد براءته تدريجياً، بفعل إعجابه الشديد بشخصية علي باهر السعدي؛ المغامر السياسي والإعلامي المحنّك، ورجل الأعمال الغامض والمثقف الميكافيللي. والعميد سرور الذي يدير دائرة أمنية غامضة، توظف عدداً من المشعوذين والسّحرة للتنبؤ بما سيقع من تفجيرات. والعجوز السريانية أم دانيال، التي لم تفقد إيمانها بإمكانية عودة ابنها حياً من جبهة الحرب القديمة مع إيران، على الرغم من أن الجميع يعلمون بأنه قُتل. والمتشرّد هادي الذي يشتري وببيع قطع الأثاث والأنتيكات، ويسرد حكاياته العجيبة على مسمع كثير من المعجبين بها، ويقطن في بيت لعائلة يهودية، أُجبرت على مغادرة العراق منذ عقود، و «الشّسْمة» أو المسخ الذي انبثق جرّاء إقدام هادي على تجميع وتركيب أشلاء الجثث، التي تغصّ بها شوارع بغداد بسبب التفجيرات التي لا تنتهي!
تتقاطع رغبات هذه الشخصيات ومصائرها، على وقع التسارع الشديد في أعمال العنف الدموي الذي يجتاح بغداد، فضلًا عما يجترحه (الشّسْمة/ المسخ) من فظائع تقشعر لها الأبدان. وينتهي الأمر بعلي باهر السعدي، بالفرار إلى عمّان بعد أن لُفِّقَت له تهمة اختلاس ملايين الدولارات. وتبوء كل محاولات العميد السرور للقبض على المسخ بالفشل، ويحال إلى التحقيق ثم يُلقى به إلى وظيفة أمنية ثانوية. ويضطر محمود السوادي إلى التخلّي عن كل امتيازاته البرجوازية الصغيرة، والعودة إلى بلدته الوادعة فراراً من الموت. وتقتنع أم دانيال بمغادرة بغداد والهجرة إلى أستراليا، بعد أن احتالت عليها ابنتاها بأن أرسلتا لها حفيدها الذي يشبه ابنها دانيال، معتقدة بأن القديس جريجوريوس قد استجاب لصلواتها.
أما المسخ فيظل حراً طليقاً في بغداد؛ يرقب عن كثب كل ما يحدث من مكان ما، على الرغم من أن السلطات الأمنية التي أعلنت نجاحها في القبض عليه، لم تقبض في الواقع إلّا على المتشرد هادي الذي شوّه أحد الانفجارات وجهه وجسده وحوّله إلى مسخ حقيقي! وهناك شخصية سادسة تتمثّل في «المؤلّف» الذي لا يظهر إلا في مستهل الرواية وفي ختامها، ليفسر للقارئ بعض ما تركه السارد عامداً دون تفسير.
تمثّل رواية «فرانكشتاين في بغداد» إعادة إنتاج لافتة لـ «ألف ليلة وليلة»! ولو قُيض لبطل الرواية (الصحفي محمود السوادي) أن يفرض العنوان الذي اقترحه على رئيس تحرير مجلة «الحقيقة»، وهو «حكايات أسطورية من بغداد» لما احتجنا إلى التدليل على هذه العلاقة الظاهرة والمبطنة في آن.
على أن أبرز ما يستمده أحمد سعداوي من «ألف ليلة وليلة» ويسبغه على كلّ أبطال الرواية، هو صفة «العيّارين والشطّار» الذين سبق للبغداديين أن اكتووا على مرّ القرون، بمكرهم وحيلهم وشذوذهم ومغامراتهم، كلّما انفرط عقد الأمن والأمان بمدينتهم، التي غدت مجدّداً مسرحاً لكل الأفاقين واللّصوص الذين اجتاحوا بغداد، بعد أن احتلّها الجيش الأميركي، وراحوا يتسابقون في التخطيط لنهب العراق والعراقيين، بصرف النظر عن مواقعهم الوظيفية ومواقفهم السياسية وشعاراتهم الإيديولوجية وانتماءاتهم الطائفية. كما تمثل الرواية مختبراً نموذجياً لنظرية الفوضى والواقعية السحرية في الأدب؛ فاللحظة الزمنية التي ينشغل السارد في توثيقها، هي لحظة فوضوية بكل المقاييس. إنها «بغداد 2006»؛ حيث انخرط الجميع في الإعداد لحرب أهلية على قدم وساق، وراحوا ينشؤون لذلك العصابات المسلحة، والميلشيات العسكرية التي لا تتوقف ليل نهار، عن الاشتباك والاقتتال والاستعداد التام، لتفخيخ وتفجير كل شبر من بغداد، مدفوعة بأوهام السيطرة واجتثاث الآخر. ومما يزيد هذه الفوضى العارمة جنوناً، ذلك الطابع الفانتازي الذي يضفيه السارد عليها، ممثّلا بالخيال العلمي البوليسي المستمَد من الأدب الإنجليزي الحديث، فإذا بفكرة المسخ البريطاني العتيد، تتجسّد في صورة مسخ عراقي، يصول ويجول في شوارع بغداد وأزقتها وبيوتها وأحيائها، زارعاً الرعب في قلوب المسؤولين والمواطنين على حد سواء.
ولا يتردّد السارد في الدفع بسخريته السوداء إلى أقصى حدودها الممكنة، حينما يستطرد في توصيف ما أعدّته الأجهزة الأمنية في بغداد، لمواجهة هذا المسخ، فجندت لذلك ثلّة من المشعوذين والسحرة وضاربي الرمل، بغية التمكّن من رصد مقرّه وتتبّع حركاته، والعمل على إلقاء القبض عليه!
وهكذا؛ يُحدث السارد أكبر قدر من الفوضى التي يمكن تخيّلها إبداعياً، من باب الإصرار على مضاهاة تلك الفوضى العارمة، التي كانت تجتاح بغداد سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وأمنياً؛ فيزاوج بين عتاقة بغداد من خلال التغنّي بأحيائها العريقة وأنتيكاتها القديمة، وحداثة الاحتلال البريطاني فالأميركي من خلال تمجيد المسخ «فرانكشتاين»، ويُجلس كبار المحققين الأمنيين على طاولة واحدة، مع عُتاة السّحرة والمشعوذين. لكن السارد لا يغفل عن تجميع شتات الأشلاء المتطايرة في كل مكان، جرّاء التفجيرات المتوالية، في شخص فرانكشتاين البغدادي، ثم تذويبه جرّاء تساقط أعضائه واحداً تلو الآخر، ثم العمل مجدّداً على إعادة بنائه. كما لا يغفل عن التلويح بحقيقة أن ثمة «مركزاً» يتحكّم في إنتاج كل هذه الفوضى تحت شعار «توازن العنف»، لإنهاك كل هذه الأطراف المتصارعة، وإجبارها على القبول بفكرة الأمر الواقع؛ إنه قيادة الجيش الأميركي القابعة في المنطقة الخضراء، والتي لا تتوقّف عن اختلاق الأحزاب والكتل والجماعات الدينية، وتمويلها وتزويدها بكل الأسلحة اللازمة، لإفناء بعضها بعضاً.
وإن كانت هذه الفوضى كلها هي من صنع عقل أعلى، هو قيادة الاحتلال الأميركي، فإن المسخ يمثل معادلًا موضوعياً أو نسقاً مكثّفاً لهذه الفوضى وصانعها، من جهة كونه تعبيراً بشعاً عن وجه الاحتلال وأهدافه وأطماعه ونواياه، كما يمثّل معادلًا موضوعياً أو نسقاً مكثّفاً لهذه الفوضى، من جهة كونه تعبيراً بشعاً عن وجه كل الأطراف العراقية المتورّطة في إغراق العراق والعراقيين، وفضح فسادها وأنانياتها، وتعرية مصالحها المترابطة بنيوياً مع مصالح الاحتلال الأجنبي.
إنه الرمز المركّب لكل هذه الفوضى التي يتحمّل الجميع وزرها على صعيد الأضرار، ولا يتردّدون في إدارة ظهورهم لها وقت الحاجة، فيتسابقون إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه من مصالحهم، ومغادرة بغداد التي خرّبوها على جناح السرعة؛ فراراً بأنفسهم وبما تبقى لهم من أشلاء الضمائر والمشاعر والأفكار. فمنهم من يلتحق ببلدته النائية، ومنهم من يلوذ بعشيرته الساطية، ومنهم من يختار التنقل مع طواقم خبراء الاحتلال وإعلامييه. وكأن بغداد التي جمعتهم في لحظة جشع، تركلهم بأقدامها الراسخة في لحظة خوف، بعد أن عرّتهم واحداً واحداً، وكشفت تكالبهم على تحقيق مآربهم الشخصية وتعظيم مصالحهم الذاتية.
في «فرانكشتاين في بغداد» تتمثّل نظرية الفوضى أيضاً، في إيقاعها اللغوي المتفاوت بخبث متعمد؛ فإذا به يعلو ويشف حيناً حتى نخال أننا أمام سارد كلاسيكي متمرّس. وإذا به يهبط ويضحل حيناً آخر حتى نخال أننا نقرأ لكاتب هاو! هذا فضلاً عن التوظيف الباهر للغة التحقيقات والتقارير والريبورتاجات الصحفية، التي من شأنها أن تلقي بنا في عين عاصفة الحدث الروائي.
وأما بخصوص المراوحة بين العربية الفصيحة الرزينة والوقورة والعاميّة البغداديّة المحكيّة والمكشوفة، فحدّث ولا حرج؛ لأن بغداد 2006 التي تُشرع كل نوافذها على المجهول، غدت أرخبيلًا شاسعاً من النوايا والمخطّطات والمؤامرات، التي يصعب معها الجزم بإمكانية الركون إلى أي نسق لغوي؛ فلا الفصيحة الرسمية يمكن أن تجدي على الدوام، ولا المحكية الشعبية يمكن أن تسعف على الدوام، ولا بديلهما النقيض كالإنجليزية يمكن أن ينجي على الدوام، ولا ما ترطن به أم دانيال من السريانية الغابرة أمام قديسها الوسيم يمكن أن ينقع الغلّة.
وفي ظل واقع متفجّر ومتشظٍّ مثل بغداد 2006؛ تتوارى أي إمكانية لامتلاك أي أفكار متماسكة، ومن ثم أي إمكانية لامتلاك أي لغة معبّرة. والعكس من ذلك صحيح، بحكم العلاقة الجدلية القائمة بين الواقع والفكر واللغة أو اللغة والفكر والواقع.