عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    23-Nov-2025

الأخلاق (1): بين القانون والوجدان*د. محمد العايدي

 الغد

عندما نتحدث عن القانون نتحدث عن الدولة، وعندما نتحدث عن الوجدان نتحدث عن النفس الإنسانية، وهنا يبرز السؤال القديم الحديث: هل الأخلاق نتاج القانون أم الوجدان؟ هي الموازنة الدائمة بين السلطة التي تفرض علينا سلوكاً معيناً تلزمنا به، وبين سلطة داخلية نابعة من النفس توجهنا، وهل سلوكنا يحدده ما نخاف منه أم ما نؤمن به؟
 
 
 الأخلاق ليست قائمة من الممنوع والمسموح، بل هي المنطقة الأعمق في الإنسان، تتشكل باعتبارها المساحة التي يختبر الإنسان فيها ذاته، بين سلطة خارجية اسمها القانون، وسلطة داخلية اسمها الوجدان، لينظر إلى قراراته: هل هي توجيه من الخارج أم من أعماقه؟ هذا السؤال يكشف عن أعقد ثنائية في الفلسفة الأخلاقية، عن المسافة بين ما نجبر عليه وما نختاره، وبين ما نحتمي به وما نؤمن به.
نستطيع القول إن القانون هو «الأخلاق الرسمية» التي تُسن وتُطبق وتُكتب لردع الخطأ، وحماية المجتمع وتنظيم العلاقات، فيضع للإنسان حدوداً ويحيطه بجملة من الضوابط، ولكن هذا الانضباط السلوكي القانوني لا يمكن أن يتحول إلى فضيلة، ولا أن يزرع في القلب محبة الخير -مهما كان عادلاً- بل هو أقرب إلى السلوك الميكانيكي بحكم الاعتياد لا أكثر، فيستطيع القانون أن يمنع السرقة، ولكنه لا يستطيع أن يجعل من الإنسان شخصاً عفيفاً، ويمكن أن يدرب الجندي على أن يكون خشناً قوياً، ولكن لا يمكن أن يجعله منتمياً مخلصاً.
 فالقانون في النهاية يضبط الجزء الخارجي من الإنسان، ولكنه لا يصقل الجوهر الداخلي الذي فيه.
أما الوجدان فهو القانون الذي لا يُكتب ولا يُرى، وهو القوة الصامتة الذاتية التي توجه الجسد من الداخل وتمنحه البوصلة نحو الحياة، ليس خوفاً من العقوبة، بل حياءً من النفس، ويطلب الاستقامة بداعي الحب لا الالتزام، فالفرق بين الاثنين جوهري: فالقانون يضبط المجتمع، ولكن الوجدان يرقيه.
وحين يقف الإنسان بين القانون والوجدان، يقف في أعمق نقطة من نقاط الإنسانية، يلتقي فيها الخارج بالداخل والحب بالانضباط، في هذه اللحظة يتحول الانقياد الإلزامي إلى طاعة اختيارية، والسلوك إلى قيمة وفضيلة، عندها فقط يتولد في الإنسان موقفٌ أخلاقي حقيقي، فالقانون يقول لك: «لا تؤذِ غيرك»، والوجدان يقول: «أحبَّ لأخيك الإنسان ما تحبه لنفسك».
 من هنا نفهم أن القانون وحده لا يكفي لبناء الأوطان، ولا تقيم القوانين الصارمة وحدها مجتمعاً فاضلاً، وإن كانت تقيم سلوكاً ظاهرياً منضبطاً، ولكنه معرض للانهيار في أي وقت يغيب فيها الرقيب الخارجي، فالقانون يصنع مواطناً منضبطاً، ولكن الوجدان يصنع مواطناً صالحاً، ويظهر صلاحه عندما يغيب الرقيب، ولهذا تحتاج الدول - مهما بلغت قوتها – إلى تنمية القوة الوجدانية، لتكون هي الطاقة التي تحافظ على ثبات المجتمع ووحدته وتماسكه ومعناه.
 هنا يصبح الجواب على سؤال الانتماء واضحاً، حين يتوافق التشريع مع الحسّ الوجداني يتكون الانتماء، الذي يجعل المواطن يلتزم بالقانون لا خوفاً من العقوبة، بل احتراماً لمعنى العدالة الكامنة فيه، وهنا تتأسس علاقة جديدة بين الدولة وأبنائها، علاقة تقوم على الثقة لا الريبة، والمشاركة لا الخوف، وتصبح المواطنة فعلاً أخلاقياً بقدر ما هي التزام قانوني.
 ختاماً، لو كان القانون وحده قادراً على صناعة الأخلاق لما احتجنا إلى التربية ولا القدوة ولا الأديان ولا الفلسفة، التي حاولت عبر التاريخ تهذيب الإنسان قبل تنظيم العمران، فالقانون كما عند ابن خلدون - لا يحمي دولة إذا فسدت القيم والأخلاق عند أبنائها- فقال: «إذا فسدت الأخلاق ذهبت الحماية، وفنيت الدولة»، أي إن المجتمعات قد تمتلك قوانين راسخة ومؤسسات قوية، ومع ذلك تنهار، لأن الأخلاق ليست في القانون، بل في وجدان الإنسان، والقانون يحتاج إلى قوة تطبقه، أما الوجدان فيكفيه نفس صافية تؤمن بحب الخير للناس، ولا يمكن للعالم أن يُحكَم من الخارج، ما لم يحكم الإنسان نفسه من الداخل، فالفعل الأخلاقي الحقيقي الذي تتصالح فيه سلطة القانون مع سلطة الوجدان، ليتحول من سلوك إلى قيمة، ومن التزام إلى فضيلة، ويصبح الإنسان هو مصدر الأخلاق، لا مجرد منفذ لها، حينها فقط تصان المجتمعات بقوة لا يراها أحد تحفظ الجميع.