عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    06-Dec-2019

“إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين” - د. محمد المجالي
 
الغد- تميزت سورة الذاريات بعدة أمور، منها كثرة ما أقسم الله تعالى به، حيث الذاريات وهي الرياح التي تذرو في هبوبها ما شاء الله، والحاملات وقرا وهي السحاب تحمل الماء ليحيي به الله البلاد والعباد، والجاريات حيث النجوم أو الفُلك بسهولة ويسر ويُنتَفَع بها، والمقسمات أمرا وهي الملائكة تدبر الأمور بأمر الله تعالى، أقسم بهذه على أن ما يعد به الناس واقع لا محالة، وأن هذا الدين حق لا ريب فيه، ثم يقسم بالسماء ذات الحُبُك أي الطبقات، بأن الناس في قول مختلف إزاء هذا الحق الذي يخبرهم الله به، ويتوعد الله الكاذبين، ويعد المؤمنين، ويصف شيئا من حالهم الوادعة في الدنيا حيث العبادة التي تؤهلهم لنعيم الآخرة، ويطمئنهم إلى قضية الرزق تحديدا، فأمره عند الله، وهو حق كما أنهم ينطقون، فأقسم الله من جديد وأكّد: “فورب السماء والأرض إنه لحق مثلما أنكم تنطقون”، كل هذا ليريح اللهُ العبدَ ويطلب منه مجرد الأخذ بالأسباب لا غير.
ثم يذكر الله تعالى قصص بعض الأقوام المكذبين، وكيف أدى بهم كفرهم وتكبرهم وفسادهم بأنواعه إلى حجب نعم الله عنهم، فذكر قوم لوط وموسى هود ونوح بهذا الترتيب، ربما كان الترتيب حسب فظاظة هؤلاء الأقوام وشدة بأسهم وفحش ذنوبهم، فهم يذوقون جزاء ذنوبهم، مع أن الله هو باني هذه السماء وموسعها، وفارش الأرض وممهدها، خلق الأزواج وهيأ الخلق كله، هنا يطلب منا أن نفرّ إليه سبحانه، فلا ملجأ ولا منجى إلا إليه سبحانه، يحذرنا من الشرك، ومن تكذيب الرسل المبلغين عن الله، وإن أصروا فلا بد من التولي عنهم وعما يفعلونه من منكرات، ولتكن الدعوة وسيلة دائمة لعلها تنفع المؤمنين، وهنا يذكرنا سبحانه أنه ما خلقنا إلا لعبادته، ولا يريد مقابل هذه العبادة لا رزقا ولا طعاما، فالله غني عن عباده وهم فقراء إليه، فالله هو الرزاق ذو القوة المتين، فلا تجلبن لكم ذنوبكم خسارة الدارين.
هي سورة العبادة التي بث الله من خلالها أكثر من وسيلة تبعث على الطمأنينة في الدارين، طمأنينة تجاه ما يسخره الله تعالى من آياتها الكبرى خدمة لهذا الإنسان، ولا شك أن موضوع الرزق بالذات محور مهم في السورة، حيث القسم بأنه حق، وكذلك ما وصف الله به نفسه من صفات وذكر من أسماء ندر في القرآن تتابعها كما في الآية: “إن الله هو الرزّاق ذو القوة المتين”، خاصة في الفاصلة القرآنية (خواتيم الآيات)، فكثيرة هي الفاصلة التي تنتهي باسم واحد مثل: (بصير، قدير، عليم)، والأكثر ما ينتهي باسمين: (عزيز حكيم، عليم خبير، سميع بصير، غفور رحيم)، وهكذا، والأقل الذي ينتهي بثلاثة أسماء غالبها مع اسم الله، مثل: (والله غفور رحيم، والله عزيز حكيم)، والنادر ما ينتهي بأربعة أسماء أو صفات كما هو هنا في الآية: “إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين”، ويستثنى من ذلك ما جاء في آخر سورة الحشر حيث عدد الله بعض أسمائه دون ربطها المباشر بقضايا كما هو الحال هنا.
حين يطلب الله منا عبادته، ويعلمنا أنه غير محتاج لنا، بل نحن الفقراء إليه سبحانه، ويذكر الرزق والطعام خصوصا مع أنه داخل في معنى الرزق لأنه المقصود الأهم عند الناس، عندها يخبرنا أنه: الله الرزّاق كثير الرزق فلا يعجزه تعالى شيء أن يعطي ويبسط أو يمنع ويقبض فبيده ملكوت كل شيء، والله ذو القوة فلا تقف أمامه أي قوة تتصرف في شأنه عموما، وفي رزقه خصوصا، والله هو المتين القوي الشديد، لا تلحقه مشقة ولا يمسه لغوب، ذو الاقتدار الشديد.
هذه كلها تؤكد أحقيته في العبودية من جهة، وضمانته لما يشغل بال الإنسان من جهة أخرى، فيا له من رب حكيم عليم، وألفت النظر أن هذه الأسماء أيضا (الرب، الحكيم، العليم) هي الأخرى التي وردت في السورة إضافة إلى التي ذكرتها، فالرب فيه معنى التربية، والحكيم الذي يصرف الأمور وفق مشيئته وحكمته، والعليم ببواطن النفوس وحقائق الصدور، هو ربنا ورب كل شيء، عليه توكلنا، وإليه إنابتنا، وإليه المصير، أملنا به أن يرزقنا من أنواع الرزق كله، فالطعام رزق، والحكمة والعلم والقوة والذرّية والعافية والأمن كله رزق، نشكره تعالى عليه بالعطاء، وإن حُجِب فلحكمة لا يعلمها إلا الحكيم العليم، ونلحظ كيف تقدم ذكر الحكيم على العليم مع أن السياق القرآني غالبا هو العكس (العليم الحكيم)، فهي إشارة إلى أنه تعالى لا يعطي أو يمنع إلا عن حكمة قد لا نعرفها، وعلم ربما لا نحيط به، فهو وحده الحكيم العليم سبحانه.
ثقتنا بالله مع حُسن عبادتنا له هي السعادة الحقيقية، فلنفرّ إليه تعالى، هو حسبنا ونعم الوكيل، نقصده في حوائجنا، نناجيه في خلواتنا وسجودنا، فهو القادر على فعل ما نظنّه مستحيلا، كما رزقَ زوجَ إبراهيم وبشره بغلام عليم، حينها صكّت وجهَهَا وقالت: عجوزٌ عقيم؟ فلا مستحيل عند الحكيم العليم، سبحانه.