عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    13-Sep-2025

قيام دولة فلسطينية سيكون مفيدا لإسرائيل

 الغد

ريتشارد هاس* - (فورين أفيرز) 2025/9/3
 
وصل الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي إلى نقطة اللاعودة مع تآكل فرص حل الدولتين بفعل توسع الاستيطان، وتحولات السياسة الإسرائيلية بعد هجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر)، ورفض فلسطيني سابق للتسويات. لكن بقاء الاحتلال بلا نهاية أو حل الدولة الواحدة يهدد أمن إسرائيل، والدعم الدولي المقدم لها، واستقرار دول الجوار والمنطقة، بينما يظل قيام دولة فلسطينية أفضل الخيارات المتاحة لتحقيق السلام.
 
 
بعد مضي أكثر من نصف قرن على الحرب بين العرب وإسرائيل في العام 1967 وصدور قرار مجلس الأمن رقم 242، الذي أرسى المبدأ القاضي بأن تتخلى إسرائيل عن الأراضي التي احتلتها في الحرب مقابل السلام والأمن، لم يحرز الإسرائيليون والفلسطينيون أي تقدم يُذكر، ناهيك عن تحقيق تقدم دائم، في ما يتعلق بخلافاتهما الجوهرية.
لكن الوقت قد حان لتغيير هذا الوضع. فالفرصة الضئيلة المتبقية لإحراز تقدم نحو اتفاق دائم بين الإسرائيليين والفلسطينيين يخدم مصالح الطرفين، آخذة في التلاشي بسرعة. والعقبات السياسية والعملية أمام التسوية ستتجاوز قريباً نقطة اللاعودة.
تجد إسرائيل، بفضل جهودها بالدرجة الأولى، نفسها، اليوم، في بيئة أمنية مواتية. فالتهديدات على حدودها وفي المنطقة قد أُضعفت بشكل كبير، أو حتى قضي عليها تماماً. ولم يسبق أن كانت البلاد في وضع أفضل للتعامل مع التحدي الاستراتيجي الذي تطرحه القومية الفلسطينية، وهو تحد يتطلب استجابة بأبعاد سياسية وعسكرية معاً.
غير أن هذه البيئة لا يمكن أن تدوم إلى الأبد. فعلى الرغم من أن إسرائيل تحظى بصديق في البيت الأبيض مستعد لتقديم دعم حيوي لها، فإن الدعم الأميركي والأوروبي على المدى الطويل ليس مضموناً، خاصة إذا ازداد عدد الأميركيين والأوروبيين الذين ينظرون إليها كدولة مارقة تحرم الآخرين من حقوقهم.
إذن، تواجه إسرائيل خياراً مصيرياً. فإما أن تبذل جهداً جاداً للتسوية والتعايش السلمي مع الفلسطينيين، أو أن تخاطر بفقدان الدعم الدولي الذي يتطلبه أمنها وازدهارها على المدى الطويل. وعلى الرغم من أن حل الدولتين أصبح مرفوضاً ومكروهاً بالنسبة لكثير من الإسرائيليين، فإنه ما يزال الأمل الأفضل لتحقيق أمنهم وازدهارهم. ولا شك في أن امتلاك الفلسطينيين دولة خاصة بهم سيكون أمراً جيداً لهم، لكنه سيكون مفيداً أيضاً لإسرائيل، بل إن المساعدة في إقامة دولة فلسطينية تحمل في طياتها إمكانية أن تخدم إسرائيل بقدر ما ستخدم غيرها.
مهمة عسيرة
اقترب الإسرائيليون والفلسطينيون أكثر من مرة من التوصل إلى اتفاق قائم على مبدأ الأرض مقابل السلام. ولكن على مدى العقود الثلاثة أو الأربعة الماضية، فشلت الدبلوماسية إلى حد كبير لأن القادة الفلسطينيين، ياسر عرفات، الرئيس السابق للسلطة الفلسطينية، وكذلك خلفاؤه، كانوا غير راغبين أو غير قادرين (بسبب ضعفهم السياسي) على قبول ما عرضته إسرائيل في ما يتعلق بالأراضي، ووضع القدس، وقدرة اللاجئين الفلسطينيين على العودة إلى ديارهم. أما معارضة "حماس" للسلام فكانت وما تزال أشد جوهرية، لأنها تستلزم قبول الدولة اليهودية كجزء دائم من المنطقة.
وكانت تكاليف هذا الرفض الفلسطيني لحل الدولتين القائم على التسوية باهظة. إذ ما يزال أكثر من 5 ملايين فلسطيني يعيشون في الضفة الغربية وقطاع غزة تحت السيطرة الإسرائيلية بدلاً من أن يديروا شؤونهم بأنفسهم. وأضحى التوصل إلى نتيجة دبلوماسية مماثلة لما رفضه القادة الفلسطينيون في الماضي أكثر صعوبة بكثير الآن.
ويعود ذلك إلى حد كبير إلى تغير الوضع على أرض الواقع. فاليوم توجد عقبات كثيرة أمام السلام، وتحديداً نحو 140 مستوطنة مرخصة من الحكومة الإسرائيلية في الضفة الغربية (و200 بؤرة استيطانية أخرى غير مرخصة) يعيش فيها أكثر من 500 ألف إسرائيلي. وكل مستوطنة وبؤرة استيطانية تجعل تطبيق مبدأ الأرض مقابل السلام وبناء دولة فلسطينية قابلة للحياة أكثر صعوبة. وكل مستوطن إضافي يخلق مقاومة سياسية لمثل هذه التسوية ويزيد من التكاليف الاقتصادية لعملية نقل السكان.
علاوة على ذلك، تغيرت السياسة الإسرائيلية. فقد تراجعت الأحزاب السياسية اليسارية، بينما أصبحت الأحزاب اليمينية أقوى. وكان هذا التحول السياسي جارياً منذ عقود، لكنه تسارع بشكل كبير بعد الهجوم الوحشي الذي شنته "حماس" على إسرائيل في الـسابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023. ومن الجدير بالذكر أن حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الائتلافية، التي تعتمد على دعم ما يمكن وصفه بالتيار القومي الديني اليميني المتشدد، قد جسدت هذا التحول وأسهمت في تسريعه.
في الواقع، إن عدداً كبيراً من الإسرائيليين وأنصارهم حول العالم، حتى أولئك الغاضبين من سلوك نتنياهو في الحرب ومما يعتبره كثر هجوماً على الديمقراطية الإسرائيلية، أصبحوا يعارضون بقوة قيام دولة فلسطينية، خشية أن تتحول إلى قاعدة تنطلق منها الفصائل المسلحة لتنفيذ عمليات. ويجادل بعضهم بأن حل الدولتين سيؤجج الطموحات السياسية الفلسطينية بدلاً من أن يشبعها. فيما يعارض آخرون قيام دولة فلسطينية ليس لهذه الأسباب فحسب، بل أيضاً لأن أعينهم على غزة والضفة الغربية كمنطقتين للتوسع الاستيطاني اليهودي. وهكذا، تبين أن الفلسطينيين المتطرفين ليسوا وحدهم من يطمعون في كل ما يقع بين النهر والبحر.
ونتيجة لهذه التطورات وغيرها، أصبح الإعلان عن موت حل الدولتين بمثابة صناعة رائجة بذاتها. ولأسباب مفهومة، فإن هذا الحل في أفضل الأحوال، باقٍ على أجهزة الإنعاش.
الأمن على المدى الطويل
إن حل الدولتين لم يُدفن بعد. وسيكون الإسرائيليون والفلسطينيون في وضع أفضل بوجود دولة فلسطينية قابلة للحياة ومستقلة وذات سيادة، يسكنها الفلسطينيون ويديرونها بأنفسهم، ولكن على أساس شروط تمنعها من تشكيل تهديد أمني لإسرائيل.
بدلاً من أن تكون الدولة الفلسطينية قاعدة للإرهاب، ستكون على الأرجح وسيلة لتقليصه بطرق لا تستطيع القوات الإسرائيلية تحقيقها. والسبب أن الإرهابيين اليوم يستطيعون التحرك تقريباً من دون عقاب، لأنهم غير مسؤولين عن أي أرض أو اقتصاد، ولا يوجد لديهم مواطنون يحاسبونهم. وفي غياب دولة فلسطينية، من المرجح أن تواجه إسرائيل حرباً لا نهاية لها. وفي المقابل، فإن حكومة دولة فلسطينية ستتحمل العواقب العسكرية والاقتصادية لأي هجمات تُجيزها ضد إسرائيل، والتي ستُعتبر أعمال حرب لا إرهاب، وستتحمل أيضاً العواقب المترتبة على الهجمات غير المصرح بها المنطلقة من داخل حدودها التي يُتوقع من حكومة ذات سيادة أن تمنعها.
هذا الواقع ينبغي أن يدفع حكومة مسؤولة، لا تديرها "حماس"، إلى التصرف بشكل بناء، مع توفير سبل لإسرائيل للرد إذا أثبت القادة الفلسطينيون عجزهم أو عدم رغبتهم في الوفاء بالتزاماتهم الدولية. وقد حظيت إسرائيل بدعم دولي لمثل هذا الرد في أعقاب السابع من تشرين الأول (أكتوبر) مباشرةً. لكن إسرائيل فقدت ذلك التفهم والتعاطف خلال الفترة التي تجاوزت 22 شهراً، والتي قتلت خلالها عشرات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين وعرضت كثرين غيرهم لظروف قاسية للغاية.
بالإضافة إلى ذلك، سوف يخلق حل القضية الفلسطينية سياقاً يمكن فيه لـ"اتفاقات أبراهام"، ولعملية السلام بين الدول العربية وإسرائيل بصورة عامة، أن تستمر وتتوسع. وسوف تتمكن الدول العربية من تبرير إقامة علاقات طبيعية مع إسرائيل أمام شعوبها إذا تمكنت من الإشارة إلى مسار يقود إلى إقامة دولة فلسطينية. وقد أوضح ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، أن ما يمنعه من السعي إلى إقامة علاقات أوثق مع إسرائيل هو رفض الأخيرة إعادة إطلاق عملية دبلوماسية تقوم على أفق حل الدولتين. وعلى نحو مماثل، فإن قيام دولة فلسطينية سيعزز استقرار جيران إسرائيل القلقين من تهجير الفلسطينيين والإخلال بالتوازن الديموغرافي لبلدانهم. كما أن جعل القضية الفلسطينية أقل أهمية وظهوراً في السياسة الإقليمية والدولية سيسمح أيضاً للمؤسسة الأمنية القومية الإسرائيلية بالتركيز على التهديدات الملحة الأخرى، وعلى رأسها تلك التي تشكلها إيران.
بالإضافة إلى ذلك، سيكون وجود دولة فلسطينية منفصلة جيداً لهوية إسرائيل وتماسكها الداخلي. فهناك نحو مليوني مواطن عربي داخل إسرائيل، وقد يتجه بعضهم نحو التطرف إذا استمرت إسرائيل في إحباط الطموحات السياسية الفلسطينية ومعاملة الفلسطينيين بقسوة. والأهم من ذلك أن قيام دولة فلسطينية سيعفي إسرائيل من الاختيار بين أن تكون ديمقراطية أو أن تكون يهودية: فمنح 5 ملايين فلسطيني حقوقاً متساوية سيهدد الطابع اليهودي للدولة، بينما حرمانهم من هذه الحقوق سيهدد طابعها الديمقراطي. ومن الواضح أن جميع المؤشرات تدل على أن إسرائيل تحرمهم من هذه الحقوق، وهو اتجاه لن يؤدي إلا إلى زيادة عزلتها الدولية.
ومن الجدير ملاحظة أن الظهور بمظهر المنفتح على إقامة دولة فلسطينية سيساعد إسرائيل على تجنب صفة الدولة المنبوذة في العالم، وهي حقيقة تزداد زخماً كرد فعل على عملياتها العسكرية في غزة. كما أنه سيقلل من خطر العقوبات الاقتصادية الأوروبية ويحد من تنامي الشعور المتزايد بالنفور لدى العدييد من الأميركيين، بمن فيهم الشباب من اليهود الأميركيين، وهو اتجاه قد يهدد مع مرور الوقت حتى الدعم العسكري الأميركي لإسرائيل. وقد يؤدي انفتاح إسرائيل على هذه المسألة أيضاً إلى تقليص معاداة السامية على مستوى العالم.
وأخيراً، وهو الأمر الأكثر إلحاحاً، فإن تأييد قيام دولة فلسطينية من جهة المبدأ سيمنح إسرائيل طريقاً للخروج من غزة وفرصة لإعادة من تبقى من الرهائن. ويشكل تحديد معالم طريق نحو حل الدولتين شرطاً مسبقاً لاستبدال القوات الأمنية الإسرائيلية بقوة عربية لتحقيق الاستقرار، ولخلق جهة منافسة لـ"حماس" التي ستفقد احتكارها شبه المطلق لفكرة أنها الجهة الوحيدة القادرة على إقامة دولة للشعب الفلسطيني. وكما تعلّم البريطانيون في إيرلندا الشمالية، لا يمكن هزيمة الجماعات المتطرفة بالقوة العسكرية وحدها، بل يجب أيضاً تهميشها سياسياً من خلال توفير مسار دبلوماسي يَعِد بأكثر مما تعد به دوامة العنف المستمرة.
القليل يغني عن الكثير
إن الرغبة في تحقيق نتيجة معينة هي شيء، لكن إمكان تحقيقها هو شيء آخر تماماً. ولذلك، ينبغي أن يكون التركيز الدبلوماسي المباشر متواضعاً، نظراً إلى الحقائق السياسية في إسرائيل وبين الفلسطينيين. ينبغي أن يكون هدف أولئك الذين ما يزالون يؤيدون حل الدولتين في المستقبل القريب هو الحفاظ على إمكانية الانخراط في دبلوماسية أكثر طموحاً وتهيئة الظروف التي تمنح مثل هذه الدبلوماسية فرصة للنجاح في يوم من الأيام.
في الواقع، ينبغي أن يكون لهذه السياسة بُعدان: أحدهما قائم على التجنب والآخر على البناء. في ما يخص الأول، يجب على الحكومات تفادي الدعوة إلى تقرير المصير الفلسطيني. وعلى غرار ما ورد في اتفاقيات "كامب ديفيد" التي ساعدت واشنطن في التوصل إليها وإبرامها بين مصر وإسرائيل في العام 1978، يجب أن يكون للفلسطينيين الحق في المشاركة في تحديد مستقبلهم، ولكن ليس في إعلانه أو تقريره بشكل أحادي. ولا بد من أن تُنشأ الدولة الفلسطينية بالتوازي مع إسرائيل. فالتاريخ أثقل من أن يمكن تجاهله، والمساحة الجغرافية أضيق من أن تسمح بخيار آخر.
ويجب تجنب شكل آخر من الأحادية، وهو إعلان بعض الأطراف الخارجية المعنية، وتحديداً أستراليا وكندا وفرنسا والمملكة المتحدة، عن نيتها الاعتراف بدولة فلسطينية هذا الخريف إذا لم يتحقق وقف لإطلاق النار في غزة. فعلى الرغم من أن هذه القوى ترى أن خطواتها مفيدة، فإنها في الواقع ليست كذلك على الإطلاق. يجب على الإسرائيليين والفلسطينيين التوصل إلى تسوية، وعلى الفلسطينيين أن يستوعبوا أن دولة خاصة بهم، إذا سمحت إسرائيل بذلك، لن تُمنح لهم من الآخرين من دون تقديم تنازلات من جانبهم. ومما يزيد المشكلة تعقيداً أن خيار الاعتراف بدولة فلسطين يبدو الآن بمثابة مكافأة لـ"حماس" لا لجهة فلسطينية بديلة أكثر اعتدالاً.
وعلى نحو مشابه، يجب مقاومة الأحادية الإسرائيلية أيضاً. وهنا يقع العبء على عاتق الولايات المتحدة، لأن السياسة في إسرائيل الناتجة من الائتلافات الحاكمة والتغييرات الديموغرافية وردود الفعل على أحداث مثل هجمات السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، تطورت بطريقة تجعل إسرائيل، إذا تُركت لشأنها، غير ملتزمة بضبط النفس. ولذلك، ينبغي على إدارة ترامب أن توضح معارضتها لبناء مستوطنات جديدة، وبؤر استيطانية جديدة، وأي ضم للأراضي الفلسطينية. كما يجب أن تُبلغ توقعاتها بأن يحترم المستوطنون ووحدات جيش الدفاع الإسرائيلي حقوق الفلسطينيين الإنسانية وحقوق ملكيتهم. ولعل ما قد يُضفي قوة حقيقية على هذا الموقف (وهو ما قاومته هذه الإدارة وسابقاتها إلى حد كبير) هو إرسال رسالة من واشنطن مفادها بأن إسرائيل لن تستطيع، من الآن فصاعداً، الاعتماد على فكرة أن الولايات المتحدة ستستخدم حق النقض في مجلس الأمن لحمايتها من جميع العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية إذا تجاهلت التفضيلات الأميركية. ويمكن لواشنطن أيضاً فرض رسوم جمركية أعلى على إسرائيل إذا واصلت تقويض ما تبقى من فرص محدودة لقيام دولة فلسطينية. ومن الممكن للولايات المتحدة أن تميز بين دعمها لأمن إسرائيل ودعمها للاحتلال الإسرائيلي المفتوح وتمدده.
وفي الوقت نفسه، ينبغي على الولايات المتحدة والدول الأوروبية والسعودية وغيرها من الحكومات العربية أن تضغط نحو إنهاء الحرب في غزة واستبدال قوات الاحتلال الإسرائيلية بقوة عربية وفلسطينية لتحقيق الاستقرار. ويجب على تلك الحكومات أيضاً أن تطرح رؤية علنية لعملية دبلوماسية أوسع. وينبغي عليها توضيح ما تتوقعه من كل من الإسرائيليين والفلسطينيين، وما يمكن أن يتوقعه الطرفان في المقابل، وما هي على استعداد للقيام به لتشجيع العملية وتعزيز نتائجها. ويشمل ذلك تقديم ضمانات أمنية لإسرائيل ودعم اقتصادي لمساعدتها على إعادة توطين المستوطنين، وتزويد الدولة الفلسطينية الجديدة بما تحتاج إليه للوفاء بالتزاماتها تجاه مواطنيها وتجاه إسرائيل. ولن يتطلب الأمر هنا أقل من التزام طويل الأمد ببناء الأمة، أو بشكل أدق، بناء الدولة.
من الناحية المثالية، قد يشجع ذلك على بروز قيادة فلسطينية أكثر اعتدالاً، مستعدة للحديث والتصرف بطرق تطمئن غالبية الإسرائيليين، وهو ما قد يشجع بدوره على ظهور قيادة إسرائيلية أكثر اعتدالاً. وما يتبادر إلى الذهن هنا هو أثر مبادرة الرئيس المصري أنور السادات تجاه الإسرائيليين بعد أربعة أعوام فقط من هجوم مصر على إسرائيل في حرب العام 1973، التي أقنعت الإسرائيليين بأن لديهم شريكاً جديراً بالثقة، مما برر لهم إخلاء المستوطنات وإعادة الأراضي التي احتلتها إسرائيل في العام 1967. أما الشروط الدقيقة للدولة الفلسطينية فسيتم تناولها والتفاوض بشأنها لاحقاً على يد جيل جديد من القادة الإسرائيليين والفلسطينيين.
من المستحيل وصف مسار مثل المذكور أعلاه بتفاؤل، بالنظر إلى واقع الأطراف المعنية اليوم وكيف وصلت إليه. لكن هناك بعض الأسباب التي تدعو للأمل، أحدها هو الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي يرى نفسه صانع سلام، ويجد نفسه في موقع يمكنه من أن يكون كذلك. في الحقيقة، يتمتع ترامب بشعبية في إسرائيل، ويحظى بدعم العديد من اليهود الأميركيين الذين يعرفون أنفسهم بأنهم مؤيدون بشدة لإسرائيل. وينطبق الأمر ذاته على المسيحيين الإنجيليين. وفي بعض الجوانب، تشبه مكانة ترامب مكانة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون. وقد تمكن نيكسون من مد يده إلى الصين الشيوعية، إلى حد كبير لأنه خلافاً لغيره من الرؤساء الأميركيين الذين ربما أرادوا ذلك، لم يكن مضطراً إلى مواجهة نيكسون نفسه.
والأمر ذاته ينطبق على ترامب في ما يخص إسرائيل. كان إبرامه لـ"اتفاقات أبراهام"، ونقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، واعترافه بالسيادة الإسرائيلية على الجولان، وأخيراً قصفه مواقع إيران النووية، كلها أمور تحصنه من الانتقادات وتمنحه نفوذاً لم يحظ به إلا قلة من أسلافه، إذا كان هناك من حظي به أساساً. ومن غير المرجح أن يتمكن أي ديمقراطي من استغلال حجة أن ترامب سيبيع إسرائيل من خلال الضغط عليها لأن كثيرين في الحزب الديمقراطي يريدون منه أن يفعل ذلك بالضبط. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الدفع الأميركي الفعال نحو السلام من شأنه أن يُعزز مكانة الولايات المتحدة حول العالم، ومكانة رئيسها. والقرار يعود إليه.
وثمة سبب آخر يدعو إلى الأمل هو أن العالم العربي مستعد لصنع السلام مع إسرائيل. فقد فعلت ذلك حكومات عدة بالفعل، والسعودية مستعدة للمضي قدماً. وهناك أيضاً "إعلان نيويورك"، الذي جاء نتيجة مؤتمر أممي ترأسته السعودية وفرنسا بشأن حل الدولتين في أواخر تموز (يوليو) الماضي، وتضمنَ، من بين أمور أخرى، دعوة "حماس" إلى إنهاء حكمها في غزة وتسليم أسلحتها إلى السلطة الفلسطينية. ويبرز الإعلان إلى أي مدى تطور العالم العربي في استعداده للعيش جنباً إلى جنب مع إسرائيل.
وأخيراً، هناك الوضع السياسي المتقلب في إسرائيل. في الواقع، يشير عدد الإسرائيليين الذين يحتجون على إضعاف المحاكم والديمقراطية في بلادهم، والذين يدعون في الآونة الأخيرة إلى إنهاء الحرب في غزة وإعادة الرهائن، إلى أن إرث رئيس الوزراء الراحل إسحاق رابين، الذي سعى إلى تقديم تنازلات مدروسة من أجل السلام، ما يزال قوة فاعلة في السياسة الإسرائيلية.
الآن هو الوقت المناسب
سوف تتطلب إقامة دولة فلسطينية مساعدة من الولايات المتحدة وأوروبا والدول العربية. والأهم من ذلك، أنها ستتطلب أن يُظهر الفلسطينيون بالأقوال والأفعال استعدادهم للعيش بسلام مع إسرائيل. وإذا كانوا مستعدين لذلك، فهناك فرصة لأن تتطور السياسة في إسرائيل، ناهيك عن أن تل أبيب ستكون مُلزمة بالرد بحسن نية.
من الممكن، بالطبع، ألا تجد إسرائيل شريكاً دبلوماسياً بين الفلسطينيين الذين يعانون انقسامات سياسية عميقة. وإذا كان الأمر كذلك، أي إذا لم يكن الفلسطينيون مستعدين لرفض حركة "حماس" واعتناق الاعتدال والاستعداد للتسوية، فإن إسرائيل ستكون أقل عرضة لأن يُنظر إليها، كما هو حالها الآن، على أنها العقبة الرئيسة أمام السلام. وستتجنب بعض الانقسامات الداخلية، وكذلك السخط الإقليمي والدولي الموجه إليها. وبالطبع، ستظل إسرائيل مضطرة إلى التعامل مع العواقب الداخلية الناجمة عن وجود أكثر من 5 ملايين فلسطيني تحت سيطرتها، كما سيكون عليها التعامل مع الفلسطينيين بأسلوب أكثر إنسانية ومسؤولية بكثير مما قامت به أخيراً في غزة والضفة الغربية. ومع ذلك، ستكون في وضع أفضل بالمجمل.
لن تحل الدولة الفلسطينية جميع المشكلات. وهنا تتبادر إلى الذهن صياغة مختلفة بعض الشيء لقول ونستون تشرشل الشهير عن الديمقراطية: "إنها أسوأ أشكال الحكم باستثناء جميع الأشكال الأخرى التي جُرِبت من وقت لآخر". وقد يقول متشائم الشيء نفسه عن حل الدولتين: أنه أسوأ شكل من أشكال التسوية الدبلوماسية، باستثناء كل البدائل الأخرى. 
ولكن، أياً كانت أخطاره وعيوبه، فإن حل الدولتين سيترك إسرائيل في وضع أفضل من البدائل الأخرى. فالوضع الراهن المتمثل في الاحتلال المفتوح بلا نهاية قد يدفع إسرائيل إلى الانحدار أكثر نحو التحول إلى دولة منبوذة على الصعيد الدولي. وستواجه إسرائيل إرهاباً متواصلاً من شعب شعر أنه ليس لديه ما يخسره. وعلاوة على ذلك، فإن الترحيل القسري لملايين الفلسطينيين من غزة والضفة الغربية سيكون له الأثر نفسه، وربما يزعزع استقرار دول الجوار، مهدداً السلام الذي تتمتع به إسرائيل مع الدول العربية التي سعت إليه. أما الحل القائم على دولة واحدة، حيث يصبح الفلسطينيون مواطنين إسرائيليين، فسيهدد الطابع اليهودي لإسرائيل أو حكمها الديمقراطي، أو كليهما معاً.
قديماً قال آبا إيبان، وزير الخارجية الإسرائيلي المثقف في زمن صراعَي البلاد مع جيرانها العرب في العامين 1967 و1973، عبارة شهيرة ذات مرة، مفادها بأن العرب، عندما يتعلق الأمر بصنع السلام، لا يفوتون فرصة لتفويت الفرصة. وكان محقاً. لكن اليوم، ينطبق هذا القول على إسرائيل أيضاً. لم يسبق لها في تاريخها أن كانت أكثر أماناً من التهديدات الخارجية. فهي في سلام مع مجموعة من الدول العربية. وقد أضعفت بشكل كبير وكلاء إيران في المنطقة، وعلى رأسهم "حزب الله" في لبنان. كما أن إيران والعراق وسورية جميعها ضعيفة نسبياً. والسعودية، أغنى دولة عربية، والمتمتعة بمكانة فريدة في العالم الإسلامي، أشارت إلى استعدادها لتطبيع العلاقات إذا أظهرت إسرائيل استعدادها لتلبية المطالب الوطنية الفلسطينية ضمن شروط معقولة. كما أن لدى إسرائيل صديقاً مخلصاً في البيت الأبيض.
يتعين على الولايات المتحدة أن تترجم إرثها كأقرب صديق لإسرائيل إلى واقع ملموس. وعلى صنّاع السياسات والمواطنين الأميركيين أن يدركوا أن ما يُعتبر اليوم موقفاً مؤيداً لإسرائيل قد ينظر إليه التاريخ على نحو مغاير. من مصلحة إسرائيل والولايات المتحدة معاً السعي إلى إقامة دولة فلسطينية قبل أن تتلاشى هذه الإمكانية إلى الأبد. والأمر بالمعنى الحرفي هو: الآن، وإلا سيفوت الأوان.
 
*ريتشارد هاس: هو الرئيس الفخري لـ"مجلس العلاقات الخارجية" وكاتب نشرة إخبارية أسبوعية بعنوان "في الوطن والخارج" Home & Away على منصة "سَبستاك". الترجمة العربية لصحيفة "الإندبندت" حيث نُشرت في 7 أيلول (سبتمبر) 2025.