عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    23-May-2025

«المسيحيون الأردنيون في سجلات محكمة القدس/ 1840م – 1919م»

 الدستور-فادي عسكر

تعدّ سجلات المحاكم الشرعية العثمانية أهم مصدر أولي لدراسة التاريخ المحلي، لما تميزت به من شمولية؛ إذ أنه ليس من المبالغة القول إنها تصور الحياة العامة للمجتمع بكل تفاصيلها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وكذلك تميزها بالموضوعية؛ فهي لم تكتب لغايات التّاريخ، وإنّما وضعت لتحقيق غايات سامية مقصدها خدمة الدّين والدنيا، الأمر الذي حتّم تحري الدّقة المتناهية مما لا يدع مجالا لأي التباس أو غموض أو تلاعب.
وقد تناولت السجلات قراءة لمجتمع وموضوع البحث «المسيحيون الأردنيون في سجلات محكمة القدس/ 1840م – 1919م» بشكل متكامل ليس بمعزل عن المكان الأوسع أي بلاد الشام، الأمر الذي يقتضي دراسة المسيحيين في الأردن بمنظور شمولي ضمن إطار عام وهو «مسيحيو بلاد الشام». فالحراك الاجتماعي في بلاد الشام كان واحدا ومتقاربا عبر التاريخ، والمسيحيون لم يكونوا بمعزولين عن محيطهم ولم يعزلهم مواطنوهم من المسلمين؛ فكان أهالي شمال الأردن على اتصال دائم غير منقطع بالمقر الرسمي للولاية في دمشق، أما أهالي السلط فكان ارتباطهم بالقدس ونابلس كبيرا في الوقت الذي انفتحت فيه الكرك على الخليل. ويجمع الرحالة الذين زاروا شرقي الأردن منذ منتصف القرن التاسع عشر، على أنه يصعب التمييز بين المسلمين والمسيحيين الذين لا يختلفون في شيء من مظاهر حياتهم، ويتشابهون فيها حد المطابقة.
وتتضح معالم هذا الإطار العام «مسيحيو بلاد الشام» جليا في وثائق سجلات محكمة القدس الشرعية التي سدت فراغا بالأدبيات السابقة متضمنة في ثناياه حججا شرعية جاءت في تنوع محتواها لتجسد وبشكل شمولي دقيق شيئا من تاريخ المسيحيين الأردنيين المتجذرين بالأردن وطنا وتاريخا وهوية، والمتأصلين بفلسطين والقدس روحا وعطاء؛ حيث تناولت مظاهر الحياة المتعددة للمسيحيين الأردنيين في الفترة (1840م – 1919م)، وسمحت لنا بمعرفة طبيعة العلاقات المحلية والخارجية والمعاملات القائمة والممارسات السائدة وصلات المصاهرة وقتئذ والمهور وغير ذلك من التفاصيل التي أثبتت في مضمون محتواها حقيقة ارتباط المسيحيين الأردنيين بوحدة بلاد الشام.
توثق لنا المعلومات المستخلصة من سجلات محكمة القدس الشرعية صورة أكثر واقعية لمجتمع البحث «المسيحيون الأردنيون/ 1840م - 1919م» من حيث تنوع العناصر السكانية فيه والعلاقة القائمة بين هذه العناصر على المستوى الداخلي مع أبناء المجتمع الواحد من بدو وفلاحين وأرمن وشركس ووافدين، وكذلك على المستوى الخارجي وتحديدا مع فلسطين ومدنها كل من؛ القدس ونابلس وبيت لحم وصفد والناصرة.
وتظهر السجلات أيضا شيوع العديد من أنواع المعاملات التجارية السائدة فترة الدراسة كالبيع بالنقد وبالتقسيط وبالمقاصصة وبالمقايضة وبالرهن وبالكفالة، وكان أبرزها القروض الشرعية «القرض الحسن» على المستويين الداخلي بين أبناء المجتمع الأردني، والخارجي وتحديدا مع فلسطين، كما دل على ذلك العديد من الوثائق التي جاءت في بياناتها مجسدة طبيعة العلاقات التجارية التي بدورها عكست واقع الانسجام والتكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع الواحد، وأيضا موثقة وطيد روابط العلاقات الاجتماعية التي تربط الأردن بفلسطين وتحديدا بالقدس - عاصمة فلسطين السياسية والروحية -، ومن أمثلتها:
أ - وثيقة ضبط مبيع تركة خليل بطرس أبو جابر:
أشارت في معلوماتها إلى وفاء سداد الديون المترتبة على خليل بن بطرس أبو جابر الرومي الصايغ المتوفى بالقدس الشريف، والمنحصر إرثه الشرعي في شقيقته مرقا بحق النصف فرضا والباقي ردّا، ذلك بمعرفة يوسف السريخ الوكيل الشرعي عن الشقيقة المرسومة الثابت وكالته عنها بشهادة وتعريف السيد أسعد أبو السعود الدجاني وأنضوني بيترو الرومي وبمعرفة المندوبين من طرف الشرع الشريف، وذلك وفاء بيد الدائنين من حاصل تركته وهم كل من؛ كافية بنت سالم الأطرش من صرباهر، الزائر نوفل الرومي، السيد أسعد أبو السعود، عيسى المرعشلي الأرمني، علي رابيه، إسماعيل طوطح، الشيخ ياسين التكروري، السيد مصطفى هاشم.
ب - وثيقة الوكالة المطلقة (المشبك/ حنانيا – الحدّادين):
وثقت في معلوماتها توكيل مارتا بنت انضوني إلياس المشبك الرومية العثمانية المعرف بذاتها كل من جريس أفندي بن خليل جوهرية وسابا بن داود عبده ونخلة بن جريس وجميعهم من طائفة الروم العثمانيين من سكان محلة النصارى بالقدس الشريف الأصيلة عن نفسها والوصي الشرعي على أولادها الصغار وهم؛ داوود وانطاس ويوسف وكاتينكو وماريا والكساندره وأولوغا الحاصلين لها من فراش زوجها المتوفى عيسى بن الخوري داود بن حنانيا الرومي العثماني بموجب حجة الوصاية الشرعية، حيث أنابت مقام نفسها وعوضا عن شخصها سليمان بن جريس بن جبرائيل الحدادين الرومي العثماني الغائب عن المجلس والمقيم في قرية ماعين من قضاء السلط التابعة للواء الكرك بتحصيل جميع الديون المطلوبة لمورثهم عيسى الخوري من أشخاص معلومين من العربان والفلاحين مخيمين ومقيمين داخل لواء الكرك، وبقبض الديون المذكورة وبفك ما هو مرهون تحت يد مورثهم وتسليمه لأربابه بعد قبض بدل الرهن.
ج - وثيقة إيفاء القرض الشرعي «براءة الذمة»/ (قعوار – الداودي):
أشارت الوثيقة في تفاصيلها إلى دلالات اجتماعية تعبر عن عمق الروابط التي تربط مسيحيي الأردن بالقدس من خلال توثيقها لأحد أساليب المعاملات التجارية السائدة آنذاك، وهي القروض الشرعية. وقد عكست هذه المعاملة الثقة المتبادلة وتيسير تسهيلات الدَّين غير المشروط بكفالة أو رهن، بل منح المستدين المدة الكافية لسداد الدَّين الذي استحقه ورثة الدائن بعد مرور تسع سنوات من تحريره كما جاء بالوثيقة التي وثقت كذلك أمانة المستدين الذي برأ ذمته من الدَّين.
من نص الوثيقة:
حضر مجلس الشرع الشريف المعقود بمحكمة شرعية القدس الشريف خليل بن حنا بن سمعان قعوار الرومي العثماني من أهالي وسكان قضاء السلط التابعة لمتصرفية الكرك المعرف بتعريف كل من سمعان بن سمعان بن موسى بن يوسف قعوار وإلياس بن يعقوب بن إلياس كلاهما من قضاء السلط المذكورة التعريف الشرعي، وقرر بمحضر مدير الأيتام بكلامه وعبر عن قصده ومرامه قائلا أنني منذ تسع سنين ونصف كنت استقرضت من الشيخ محمد أفندي بن عبد الغني الداودي المتوفى حال حياته مبلغ (70) ليرة فرنساوي، وقبضتها من ماله ويده، وحررت على نفسي بذلك سندا، ثم أنه توفى عن ورثته الصغار والكبار وبقي بذمتي من الجهة المذكورة غير مبلغ (9) ليرات عثماني التي سلمتها  لمديرية الأيتام بالقدس الشريف وقيدها على حساب الأمانة ليدفعها إلى ورثته (59) ليرة فرنساوية و(73) قرشا باعتبار الليرة الفرنساوي (95) قرشا لعموم ورثة المتوفى المرقوم واجب الإيفاء والأداء إقرارا واعترافا.