عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    19-Apr-2019

بین الصلاح والتقوى - د. ھاشم غرایبة
الغد- كثیر ما یجادلك الذین لا یقتنعون بأن المنھج الإسلامي ھو الخیار الأمثل للخروج من مأزق أمتنا
الراھن، فیقولون: ھذه الیابان وكوریا والصین لم تتبع الإسلام، ونجحت في النھوض وأصبحت من
الدول المتقدمة.
من الصعب الرد على ھذه الحجة بمقارنة الواقع الحالي غیر العادل، لكن ربما یحتاج الأمر الى
تمھید مستند الى العودة الى جذور الأسباب التي تصنع تخلف أو تقدم الشعوب.
الفرد البشري یخلق على الفطرة، أي ھو صالح من حیث المبدأ، بدلیل أن النفوس تمیل الى الصدق
والإخلاص، وتحب الخیر وتحترم فاعلیھ، وتكره الشرور وتذم فاعلیھا.
الإعوجاج تصنعھ الظروف الخارجیة الموجھة وتتحكم بھ عوامل كثیرة، لكن الدافع الأساس إلیھ ھو متطلبات ”الأنا“ الغریزیة، فھي التي تحدد الإحتیاجات والمصالح، والتي عندما تتصادم مع مصالح الغیر بفعل الطمع والرغبة بالإستحواذ الإحترازي على ما ھو زائد عن حاجات الفرد المباشرة، تحدث الخلافات والنزاعات، ویقع الظلم.
ھكذا وعندما تنتقص حقوق الآخرین یلحق الضرر بمصالحھم، فینتقل الضرر الى المجتمع المحیط، ویتوسع بمقدار حجمھ وقسوتھ، وتحدث ردات فعل ضارة بالنسیج المجتمعي، أعمق ربما من الفعل
الضار ذاتھ، بما یشبھ ضرر الھزات الإرتدادیة الناجمة عن الزلزال.
نستنتج أنھ لتحقیق صلاح المجتمع یشترط صلاح مجموع أفراده، أو على الأقل الغالبیة العظمى، لكن لفساده یكفي بضعة أفراد فاسدین.
إن الصلاح الفردي والمجتمعي تبادلیان، بمعنى أن كلا منھما یؤدي الى الآخر، فصلاح الأفراد ینتج مجتمعا صالحا، والمجتمع الصالح ینتج أفرادا صالحین لأنھ عادل یضمن حقوق الجمیع، فلا ظلم فیھ یستوجب الرد.
إذا فالعوامل التي تدفع باتجاه الصلاح الفردي ھي اثنان: فطري أولا، لكنھ ضعیف لا یمكنھ التغلب على المصلحة، واجتماعي ثانیا تفرضھ أعراف وقوانین المجتمع الصالح، لكنھ ظرفي ونسبي.
وعلیھ فإن تحقق الصلاح الفردي مقید ومحفوف بالمصاعب، فكان لابد من داعم معزز قوي، لذلك
أنزل الله الدین على البشر، ویعالج ھذا المتطلب من شقیھ: الصلاح الفردي ویتحقق بالإیمان با وأن إلیھ المصیر، فمن یعمل خیرا یجد عنده الثواب ومن یعمل شراً یلقى جزاء وفاقا لما اقترف.
كما یحقق الصلاح المجتمعي عندما توجد سلطة حاكمة مؤمنة یختارھا المحكومون وفق شرع الله،
لكي تكفل الإلتزام بتطبیق تعلیمات الشارع الحكیم، لضمان الإیفاء بحقوق الأفراد بعدالة ومساواة.
ھكذا نتوصل الى أن المجتمع الصالح (المدینة الفاضلة) الذي بحث عنھ الفلاسفة عبر العصور، ولم یجدوه لأنھم أغفلوا العلاقة التبادلیة المتلازمة بین الصلاحین الفردي والمجتمعي، والذي لا یحقق بغیر دافع قوي ورادع لا قبل للفرد بدفعھ.. ھذا ھو التقوى بشكل مبسط.
التقوى یأتي من الإتقاء أي الإحتماء من شيء، ولما كانت أقوى الدوافع في النفس البشریة ھي الخوف، وتتفوق كثیرا على دوافع الرغبة والشھوة، لذلك كان الخوف من غضب الله، ھو الضابط الأمثل للسلوك البشري، وھو بلا شك أقوى من دافع الطمع بنیل ثوابھ. لقد شاءت إرادة الله ان لا یكون مرئیا، حتى یكون الإیمان بھ عقلیا وبالقناعة الوجدانیة، ولیس بالمدركات الحسیة، وإذاً لآمن كل البشر، فمن سیجرؤ على إنكار قوة قاھرة جبارة یراھا أمامھ؟، لكن الإیمان بالغیب ھو لامتحان النفوس، فیمیز الخبیث من الطیب، كما أنھ لم یعجل بعقوبة المسيء ولا بمكافأة المحسن، وإذاً لبطل الإبتلاء والتمحیص.
لذا فالتقوى لا تنبني إلا على الإیمان با والیوم الآخر.
لو افترضنا أن من یقودون سیاراتھم في بلد ما، بلغھم أن الطرق جمیعھا تحت مراقبة الأقمار الصناعیة، والتي تراھم ولا یرونھا، ولا یمكن لمركبة أن تفلت منھا، ستجدھم جمیعا ملتزمین بقواعد السیر لا یحیدون عنھا، ولن تجد مخالفاً واحدا، لو بحثت عن الدافع لھذا الإنضباط لن تجده عائدا الى وعیھم ولا حسن أخلاقھم...بل للخوف من العقوبة!.
ھنا یمكننا الإجابة على السؤال الأول: لماذا أمكن لأمم النھضة والتقدم من غیر الإسلام، فما الذي
یمنعنا أن نحذو حذوھم ونتقدم مثلھم!؟.
تقدم الأمم لا یعني بالضرورة صلاح مجتمعاتھا، إذ أن قیاس ذلك كان بمقدار القوة العسكریة وتحقق الاستقلال الاقتصادي وامتلاك التأثیر في الاقتصاد العالمي.
من یبني بناء رائعا جمیلا لإقامة عروض سیرك، تقدم فیھ عروض مدھشة للوھلة الأولى ثم یملھا
الجمھور فیقل رواده وینتقل الى مكان آخر، لذلك یكون البناء بلا قواعد ولا أساسات بل مؤلفا من قطع تفك وتركب.
أما من یرید أن یبني جامعة فلا تكون خیمة، بل بناء راسخ لھ قواعد راسخة في الأرض، لأنھا ستبقى لكل الأجیال القادمة.
ھكذا ھو الفارق بین نھضة حضاریة مبنیة على الصلاح القائم على مرتكزات العقیدة، وتلك القائمة
على أسس التفوق الآني وتلبیة الإحتیاجات الطارئة، لذلك دامت الدولة الإسلامیة ثلاثة عشر قرنا
متصلا، فیما قامت الامبراطوریات الأخرى على أساس التفوق العسكري لفترات متفاوتة أطولھا الدولة الرومانیة دامت ستة قرون، ثم زالت عندما انتھى تفوقھا العسكري، لتستبدل بأخر ِ النھضة الحضاریة الاسلامیة ارتقت ودامت لأنھا انسانیة، ھدفت لرفع قیمة الإنسان مھما كان عرقة
وانتماءه، بینما الحضارات البشریة الأخرى جمیعھا كانت قومیة الدافع، تھدف لارتقاء أمة بعینھا على حساب الأمم الأخرى.
لم یكن زوال الدولة الاسلامیة بسبب فشل العقیدة بالإیفاء بالإحتیاجات المستجدة ولا لنشوء عقیدة
بدیلة أكثر صلاحا، بل لتقصیر النظام السیاسي بالوفاء بمتطلبات العقیدة، والعقیدة ھي المركبة التي
تحمل الأمة الى غایتھا، ومتطلباتھا فقط ھي العزیمة التي ھي بمثابة الوقود الذي یحرك المركبة.
نحن بحاجة الى النھضة، ومن السھل أن نبني على القواعد والأعمدة القائمة، وذلك أسرع وأفضل بكثیر من ھدم الأسس والبدء بالحفر لبناء قواعد بمواصفات لن تكون أفضل بلا شك.