عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    07-Jul-2022

المحاريق يكتب: مروان الحمود .. ختام فصل من حكاية الأردن

 

 
عمون -
سامح المحاريق
 
كنت بالأمس مع رجل عصامي حقق نجاحاً واسعاً في مشروعاته الاقتصادية خارج الأردن، وبين موضوعات كثيرة حدثني برأيه أن الحفيد غالباً هو الأقرب إلى جده، وأن كلمة الابن سر أبيه ليست صحيحة إلا في حالات نادرة، كان رأيه أن المسافة بين الجد والحفيد، والهدوء الذي يشوب العلاقة بعد أن يكون الجد استنفد معاركه في الحياة، تعملان على التمثل الأفضل لشخصيته واستكمال مسيرته، كان الحديث يمضي وأنا قريب من تبني وجهة نظره، إلا أن خبر وفاة مروان الحمود أتى ليجعلني أعيد التفكير، ففي حالة مروان الحمود، فالإبن سر أبيه بالفعل.
 
في منتصف الخمسينيات كان عبد الحليم النمر الحمود شخصية فارقة في المجتمع الأردني، وربما آخر الممثلين للزعامات المناطقية في الأردن والشام في المعنى الأوسع، وكانت تلك ظاهرة بدأت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وتشكل حلم الوجود الوطني المستقل عن العثمانيين في سياقه العروبي الأوسع، فمدينة السلط كانت مهد البرجوازية الوطنية الصاعدة في شرق الأردن، وموقعها في قلب البلقاء جعلها تكتسب شخصيتها المتميزة، فإربد كانت جزءاً من فضاء حوران، ومدن الجنوب كانت على تماس مستمر مع الحجاز والجزيرة العربية، ولذلك كانت السلط المنطقة العميقة لبناء الشخصية الوطنية الأردنية في تفاصيلها التي أصبحت جزءاً أصيلاً من شخصية الأردن المستقل.
 
كانت السلط مع قدوم الأمير عبد الله بن الحسين من الحجاز تتأهب لتكون عاصمة الإمارة، إلا أن أسباباً استراتيجية وجغرافية وطبوغرافية جعلت مقر الحكم في عمان، منطقة ماركا تحديداً، ويذكر د. مهند المبيضين للتدليل على مكانة السلط دعوى أقامتها سيدة من المدينة تطلب الطلاق من زوجها لأنه أسكنها في عمان ولم تكن سوى قرية متواضعة في ذلك الوقت، ومع التهافت على الانتقال إلى عمان من مختلف المدن الأردنية بقيت السلط تحتل مكانة مركزية في تشكل النخبة السياسية والاقتصادية في الأردن، ولم تكن مسألة الحصول على مكان متقدم في هذه النخبة أمراً على أي قدر من السهولة، ففي السلط العشائر العربية المسلمة والمسيحية التي تنتمي إلى قبائل المنطقة، وفيها تواجد شامي ونابلسي وكردي يجعلها خزاناً مستمراً للدولة ومشروعها الحديث في الأردن، وأن تناط الزعامة بعبد الحليم النمر فذلك يظهر القيمة العالية للرجل في مجتمعه، خاصة أنه لم يكمل رحمه الله الخمسين سنة عند وفاته.
 
في خضم التحولات العاصفة مع رحيل الاستعمار التقليدي عن المنطقة توجه الأردن إلى إطلاق حكومة نيابية، وكان النمر القيادي المؤثر في الحزب الوطني الاشتراكي، وابن الأربعين عاماً وقتها، تحصل على الأصوات الأعلى في المملكة، ليباشر الملك الحسين اجراءات تكليفه بتشكيل الحكومة بعد الانتخابات، إلا أنه اعتذر ودعم تكليف سليمان النابلسي، وكان ما كان، وربما كان تاريخ الأردن ليتغير كثيراً لو لم يتخذ عبد الحليم النمر ذلك الموقف، ولكنه كان يدرك في داخله أن التزاحم لا يحمل فائدةً ترجى للمشروع الوطني، وكأنه يستجلب إلى الخاطر بيتين للشعر قالهما المعري في رثاء والده:
 
فيا ليت شعري هل يخف وقاره .. إذا صار أحد في القيامة كالعهن
وهل يرد الحوض الروي مبادراً .. مع الناس أم يأبى الزحام فيستأني
 
الأمر نفسه أخذ يتكرر مع ولده مروان، فكان يزهد في التزاحم من أجل مصلحة الوطن، فهو المتواجد على أهبة الانخراط والاشتباك من موقعه في السلط، زعيماً يقف على تراث كبير من الحكمة والنبل في مواقفه، فيكتسب محبة الناس وثقتهم في سنين حياته المديدة، والصفة التي ورثها من والده جعلته يحافظ على تلك المكانة الصعبة التي لا تقاس إلا بميزان مفرط في حساسيته.
 
تودع الأردن رجلاً من أبرز الرجال ونموذجاً للتحلي بالمسؤولية والشجاعة والتعامل بإيجابية وتفهم مع الجميع، رجل نعاه الأصدقاء من اليمين إلى اليسار، لأنه كان يعتبر الأردن كعبةً يمكن أن تصلي باتجاهها أينما كان محلك حولها، فالكعبة هي المكان الوحيد الذي يمكن أن يقف المصلون فيه متقابلين، وذلك جعله يضع الحرص على المجتمع وتقاليده وأمنه وتماسكه في مقدمة اهتماماته وأولوياته.
 
أحب هذه الأمثولة عندما يتعلق الأمر بالحديث عن الحوار السياسي، ولذلك أتقبل فكرة الحوار من أجل الأردن مهما بدت الأفكار متباعدةً ومتفاوتة، ومع مروان الحمود الذي تابعته ولم أتمكن من محاورته، كنت أرى هذه الأمثولة تتحقق في بعدها السياسي وقبل ذلك الاجتماعي، فكان من أوائل من يفكر الناس في اللجوء لفكرهم واستثمار مكانتهم الاجتماعية في العديد من المواقف الصعبة والمعقدة ليجدوا في شخصيته ميلاً أصيلاً ومتجذراً لتحقيق التقارب واستيعاب الجميع وتحقيق الإنصاف واجتثاث الضغائن، وهو الأمر الذي لم يكن ليتحقق من غير رصيد تراكم عبر عقود من الزمن في مختلف الظروف ومعظمها كان صعباً بالفعل.
 
أسهم الحمود في نقل الأردن إلى الحداثة، فكان يحمل تحت مظهره الأنيق عباءة شيخ طرزتها فصول ممتدة طويلة من الحلم العروبي في مستقبل أفضل، وبقي قومياً متمسكاً بذلك يرى الحدود افتئاتاً على الحلم والحق العربيين، ومع ذلك، لم يمارس في حياته نهجاً متعصباً، فكل شيء يبدأ من الناس ومن ثقافتهم وكل شيء يمكن فهمه بهدوء وتحليله والحل الوسط يمكن أن يظهر دائماً، وبمثل ذلك، كان الأردن يتقدم وسط عالمه العاصف والمضطرب.
 
لأنه لم يبحث عن المجد الشخصي، أتاه ما يستحقه من المجد، ولأنه أخلص للوطن سيبقى في ذاكرة الجميع، وعلينا أن نستفيد من تجربته لنتابع فكرة الحضور البناء الذي يسهم في مسيرة الدولة والمجتمع.
 
بقي مروان رائحةً وظلاً لعبد الحليم، فتتابعت قصة بدأت مع الدولة الأردنية ويجب أن توضع في الاعتبار على الدوام لتفهم خصوصية الأردن وحالته المتفردة في محيطه العربي.