الغد
ليس خبرا سيئا إلى هذا الحد، كما أنه لن يكون خبرا ورديا يمكن الاحتفال به، وأقصد هنا نجاح دونالد ترامب في الانتخابات الأميركية.
العلاقات الدولية لا تقوم على الأمنيات كما لا تقوم على التفاؤل والتشاؤم، العلاقات الدولية وخصوصا مع الولايات المتحدة الأميركية تقوم على قاعدة تحقيق المصالح، وهذا يتطلب قدرا كبيرا من الفهم والموهبة السياسية لتعظيم المصالح المشتركة وتخفيض التناقضات والبحث عن تقاطعات وإن لزم الأمر ابتكار ما يمكن ابتكاره في تلك التقاطعات.
دونالد ترامب ليس رئيسا منفلتا عن مفهوم الدولة الأميركية بضوابطها وقواعدها رغم كل سماته الشخصية التي تجنح للانفلات بطبعه، وقد كانت فترته الأولى درسا له كما للعالم، خصوصا في نهايتها التي استطاعت فكرة الدولة الراسخة في الولايات المتحدة أن تضبطه ومن هنا يمكن توقع أن يكون الرجل قد تعلم الدرس، وهذا لا يعني أن جوهر شخصيته تغير، فهو رجل أعمال يتقن إنجاز الصفقات "ولا يتقن شيئا آخر فعليا غير ذلك"، وقد كانت فترته الأولى مليئة بالمطبات والهزات لواشنطن قبل العالم، فنحن نتحدث عن شخصية مارست حقها بعزل موظفيها عبر تغريدات في وسائل التواصل الاجتماعي، لكنه حين انجرف وراء الشعبوية في نهاية إدارته وجد نائبه المباشر وحليفه الرئيس يقف في وجهه ليذكره بحضور الدستور والتشريعات والدولة.
الرجل – حسب المنطق التسلسلي للأحداث- قد تغير، فهل نتغير نحن في عالمنا العربي المختنق بأزماته وحروبه؟
هل يمكن أن نتعامل مع الرجل حسب فهم واع لمنطق الدولة الأميركية أولا ثم إدارة الرئيس "التي ننتظر تشكيلها لنفهمه أكثر" ثم التعاطي مع السمات الشخصية لرجل يحب التعامل بمنطق الصفقات والحسم.
الساكن في البيت الأبيض له صلاحيات واسعة بلا شك، لكنه لا يملك الدولة، فالدولة هناك مضبوطة بقواعد صارمة وعريقة، تأسست عبر الزمن.
هناك حزبان رئيسان، في داخل كل منهما جماعات مصالح تتناقض وتتقاطع وأجنحة سياسية ولوبيات وجماعات ضغط داخل واشنطن وخارجها، وشركات ومؤسسات وجمعيات ومنظمات مختلفة التوجهات والأحجام، وتحالفات متعددة ومتغيرة حسب المصالح، كلها تصب في واشنطن كجماعات تأثير على القرار السياسي، مما يعني هوامش بل مساحات شاسعة من اللعب السياسي الممنهج والمضبوط على قراءات معرفية وواعية.
مما أحمله في ذاكرتي لقاء يتيم حظيت به أول الألفية التي نعيشها في واشنطن مع السياسي الأميركي الراحل زبغنيو بريجنسكي في مؤسسة ضغط كان يديرها معنية بشمال القوقاز. وكان الرجل خارج الخدمة الرسمية وعوضا في مجالس إدارة شركات نفطية في تكساس، وحينها قال لي بلهجة مشفقة على سذاجتي وحاسمة: من السذاجة أن يذهب أصحاب الحاجات إلى واشنطن مباشرة، إن من يريد شيئا من البيت الأبيض عليه أن يتوجه إلينا للتفاهم، ونحن نعرف كيف نحرك القرار في واشنطن.