عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    16-Jan-2022

الأردن والتجربة المغربية.. استلهام منقوص وانتقائي* عريب الرنتاوي
الحرة -
ظلت التجربة المغربية في خلفية النقاشات حول "الإصلاح السياسي المنشود" بين النخب الأردنية، قبل وبعد إقرار التعديلات الدستورية الأخيرة ... ويعود ذلك إلى سببين اثنين: الأول؛ أنه لم يكن من بين هذه النخب من كان يعتقد بأن الأردن سائر نحو ملكية دستورية من الطراز الغربي...والثاني؛ أن المغرب يوفر نموذجاً للانتقال السياسي في ظلال ملكية ممسكة بتلابيب القرارات الاستراتيجية والسياسات العليا في البلاد، بمعنى أنه نموذجاً لديمقراطية محكومة بسقف الملكية الممسكة بزمام المبادرة والقرار.
 
ولم يكن لدى بعض النخب الأردنية الداعية لـ"استلهام" التجربة المغربية، أوهام حول "نموذج ديمقراطي ناجز" في المغرب، فالكل يعرف سطوة القصر وقدرته على التحكم بمفاصل "اللعبة السياسية" في البلاد، لكن إجماعاً كان تبلور مفاده أن المغرب هو الأقرب للخيار الديمقراطي من بين الدول الثمانية الأعضاء في نادي الملكيات العربية، وكان وقع الدعوة لاستلهام تجربته، يسقط "برداً وسلاماً" على الحذرين والمتخوفين من دفع مسارات الإصلاح والتحول الديمقراطي، ويستطيع كاتب هذه السطور، أن يؤكد هذه الحقيقة، بعد مخاض طويل من النقاشات حول "الطريق الأردني" للإصلاح والتحول، وبعد تجارب عديدة من الحوار والتثاقف بين مغاربة وأردنيين، من شتى المرجعيات وفي مختلف المواقع.
 
في المغرب، وبقوة الأعراف والأمر الواقع، ظل القصر محتكراً للسياسات الأمنية والدفاعية وللسياسة الخارجية، ومن موقعه كـ"أمير للمؤمنين" ظل الملك محتكراً للفضاء الديني، يديره عبر "مجلس علمي أعلى"، منوطة به وحده، قضايا الإفتاء وتفسير أحكام الشريعة، هذه حقيقة، يعرفها كل أردني على أية حال، والأردنيون عايشوها في بلادهم قبل وبعد آخر "موجات" التعديل المتلاحقة التي ضربت الدستور في عقد واحد فقط، إذ باستثناء "الفضاء الديني"، الذي ظل من ضمن "ولاية الحكومة وصلاحياتها"، فإن السياسات الأمنية والدفاعية والخارجية، ظلت خارج ولاية الحكومات المتعاقبة، وفي بعض الأحيان، فإن السياسات الاقتصادية والمالية، بعناوينها وتوجهاتها الكبرى، كانت من صلاحية "الديوان" يديرها ويرسم ملامحها، عبر مجالس خاصة، كانت تتشكل لهذا الغرض.
 
وربما يكون الأردن البلد الوحيد في العالم، الذي لا تتوفر حكوماته على وزارة دفاع، ولا تتشكل في برلماناته، لجنة دائمة للأمن والدفاع، إذ جرى العرف أن يكون رئيس الحكومة وزيراً للدفاع في الوقت عينه، ولكن من دون وزارة بهيكلية خاصة...ولقد سقطت مبادرات عدة، حاول من خلالها بعض أعضاء مجلس النواب، استحداث لجنة برلمانية دائمة تعنى بشؤون الأمن والدفاع، ولكن من دون جدوى.
 
على أن ما بدا أنه عرفٌ مستقر ومتوارث لجهة تقسيم الصلاحيات بين الملك والحكومات المتعاقبة، قد جرت "دسترته" في آخر ثلاث وجبات متعاقبة من التعديلات الدستورية، 2014، 2016 و2021، بحيث باتت من صلاحيات الملك منفرداً، تعيين ولي العهد ونائب الملك وقائد الجيش ومديري المخابرات العامة والأمن العام، ورئيس وأعضاء مجلس الأعيان، ورئيس وأعضاء المحكمة الدستورية، ورئيس المجلس القضائي وقاضي القضاة ورئيس المجلس القضائي الشرعي والمفتي العام، فضلاً عن تعيين رئيس الديوان الملكي ووزير البلاط الملكي ومستشاري الملك.
 
على أن أبرز التعديلات الدستورية الأخيرة، وأكثرها إثارة للجدل، كانت استحداث مجلسٍ للأمن القومي، اقترحت الحكومة أن يكون برئاسة الملك، وترك البرلمان للملك (أو من يفوضه) أمر دعوته للانعقاد، وأناط به مسؤوليات السياستين الأمنية-الدفاعية والخارجية، ويضم إلى جانب رئيس الحكومة، وزراء الدفاع والخارجية والداخلية وقائد الجيش ومديري المخابرات والأمن العام وعضوين آخرين يعينهما الملك منفرداً ومن دون "تنسيب" من مجلس الوزراء.
 
ويمكن القول، أنه بعد التعديلات الدستورية الأخيرة، بات رأس الدولة ورئيسها في الأردن، يتمتع بصلاحيات وسلطات منفردة، تفوق ما للعاهل المغربي ... وعلى سبيل المثال، فقد نص الدستور المغربي على تشكيل "مجلس أعلى للأمن"، الأمر الذي استٌحدث مؤخراً بالتعديلات الدستورية التي أقرها مجلسا النواب والأعيان الأردنيان، لكن المجلس المذكور في التجربة المغربية، يتمتع بصفة "تشاورية" فقط، في حين أنه ذو صفة تنفيذية، واجبة النفاذ، والأرجح من دون مساءلة أو محاسبة طالما أنها ممهورة بالخاتم الملكي كما في الدستور الأردني الجديد...العاهل المغربي يرأس المجلس وفي الأردن يدعو العاهل الأردني المجلس للانعقاد عند الضرورة، أو يفوض من يقوم بذلك، بعد أن أسقط البرلمان اقتراح الحكومة بوضع المجلس تحت الرئاسة المباشرة للملك...وفي حين جرى التنصيص في الدستور المغربي على دور لرئيس الحكومة في ترؤس اجتماعات المجلس في غياب الملك وبتكليف منه، وبجدول أعمال محدد، ظلت هوية من يحق له دعوة المجلس للانعقاد ورئاسة جلسات، منوطة بمن يختاره العاهل الأردني لهذه المهمة، والذي قد يكون رئيس الحكومة أو غيره.
 
في المغرب، يُعدّ رئيسا مجلس النواب والمستشارين (الأعيان) والرئيس المنتدب للسلطة القضائية (الملك يرأس المجلس القضائي في المغرب) أعضاء في المجلس المذكور، فضلاً عن وزير العدل، في حين لا حضور للسلطتين التشريعية والقضائية في تشكيل المجلس الأردني أو مداولاته.
 
الملك في المغرب يمارس سلطاته بثلاثة أشكال: منفرداً أو بالعطف من رئيس الحكومة أو باستشارة رئيس المحكمة الدستورية وغيره في بعض الأحيان، أما السلطات المنفردة للملك، فتتجلى عند ممارسته صلاحياته الدينية، وتعيين الأعضاء العشرة في مجلس الوصاية على العرش فضلاَ عن سلطاته كقائد أعلى للقوات المسلحة، أما تعيين رئيس الحكومة فمشروط بأن يكون من الحزب المتصدر للانتخابات وإعفاء الحكومة حال استقالة رئيسها، إجراء الاستفتاء على مراجعة الدستور، وإعلان حالة "الاستثناء" في حال تعرض البلاد لخطر داهم وحل مجلسي البرلمان أو أحدهما بعد استشارة رئيس المحكمة الدستورية.
 
المحكمة الدستورية في الأردن، أعضاءً ورئيساً، تُعين من قبل الملك، أما في المغرب فالملك يعين نصف عدد أعضائها الاثني عشرة، وينتخب مجلسا البرلمان الأعضاء الستة الباقين بواقع ثلاثة أعضاء لكل منهما، ويختار الملك رئيس المحكمة بين بين أعضائها، ويتمثل المجلس العلمي الأعلى (الشرعي) بعضو واحد من بين الستة أعضاء المعينين.
 
المنافحون عن التعديلات الدستورية الأخيرة، يرون أنها مقدمة لحكومات برلمانية – حزبية، تبقي المرافق والأجهزة الحساسة والخيارات الاستراتيجية الكبرى، بعيداً عن التجاذبات الحزبية، أما المعارضون لها، فيرون أنها "نزعت الدسم" من الحكومة البرلمانية قبل أن ترى النور بأكثر من عقد من الزمان (إن رأت النور)، وفقاً لرزنامة الانتقال التي يجري الحديث بشأنها، وجلعت من الحكومة "مجلساً بلدياً" موسعاً، بمهام ووظائف أفرغت "الولاية العامة" من أدواتها ومضامينها.
 
كما يتضح، تبدو الفوارق كبيرة بين دستوري الأردن والمغرب في باب سلطات وصلاحيات رئيس الدولة، فالدستور المغربي أقل تركيزاً للسلطات والصلاحيات من الدستور الأردني ... لكن الفوارق تبدو أوسع كثيراً في أبواب أخرى من الدستور، سيما تلك التي تتعلق بأوجه العمل العام وأدوار وصلاحيات بقية المؤسسات والسلطات.
 
فالملكية في المغرب، جرى تعريفها على أنها "دستورية ديمقراطية – اجتماعية"، وجرى في مقدمة الدستور، عرض شبه تفصيلي لأهم مبادئ السياسة الخارجية المغربية ومحدداتها، وكثير من فقرات الدستور المغربي، جرى افتتاحها بعبارة المواطنات والمواطنون (إضافة كلمة الأردنيات إلى عنوان الفصل الثاني كان سبباً كافياً لاستثارة أزمة عامة)، والدستور نص على المساواة بين المرأة والرجل، وكلف الدولة بمختلف مؤسساتها للسهر على ترجمة "المناصفة" بينهما، وأنشأ هيئة تختص بذلك، وجرّم التمييز على أساس الجنس وغيره، مما يثير قدراً هائلاُ من الانقسام في صفوف النخب الأردنية.
 
والدستور المغربي، ألزم الملك بتعيين رئيس الحكومة من الحزب المتصدر للانتخابات، وحصن البرلمان في حالات إعلان الطوارئ (الاستثناء)، والمغربيات والمغربيون نجحوا في دسترة "اللامركزية، أو الجهوية"، والمجتمع المدني، وكان لافتاً أن "المعارضة البرلمانية" جرت دسترها كذلك، ونص الدستور على حقوقها وواجباتها، بصورة لا تقبل اللبس أو التجاهل أو التهميش.
 
الأردنيون الأكثر معرفة بالتجربة المغربية، لطالما تناولوا بكثير من "التشكيك" مفهوم "أحزاب المخزن" رائج الاستخدام في المغرب، في إشارة إلى الأحزاب القريبة من القصر وأجهزة "الدولة العميقة"، لكنهم اليوم باتوا أكثر خشية من إعادة نسخ التجربة أردنياً، فبعد كل ما قيل من قبل، عن "هندسة الانتخابات" لضمان نتائجها مسبقاً، يجري اليوم التحذير، وإن بقدر من السخرية، من الدخول في تجربة "هندسة الأحزاب"، وإعادة انتاج طبعة أردنية من "أحزاب المخزن"، ولقيت رسائل شكر وجهها أحد الأحزاب المشكلة حديثاً، لكل من الديوان الملكي ودائرة المخابرات على تسهيل تشكيل الحزب وتشجيعه، موجة من السخرية السوداء على منصات التواصل الاجتماعي وفي المجالس العائلية والاجتماعية.
 
والخلاصة، أن الاقتراب الأردني من التجربة المغربية، أو تجربة الانتقال الديمقراطي المتدرج والمضبوط بإيقاع "الملكية الصلبة"، جاء منقوصاً أو مشوهاً إلى حد كبير، ولعل دراسة مقارنة بين دستور المغرب 2011 ودستور الأردن 2022 (لا يكفي لها هذا المقام) تكفي للتعرف على "الفجوة" التي اتسعت بين التجربتين بدل أن تضيق.