عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    29-Nov-2024

هل سبقت القصةُ القصيرةُ الروايَةَ في الظهور؟

 الدستور-نبيل حداد

(1)
لعل الحقيقة الأولى في نشأة القصة القصيرة تستوجب القول إن مجموعة (أغاني الليل/1923) لمحمد صبحي أبو غنيمة (1902 ـ 1971) كانت العلامة الواضحة الأولى التي تشير إلى البداية الحقيقية في هذا الفن في الأردن، بمعنى أن هذه المجموعة تكاد تستوفي شروط هذا النوع كما كانت عليها الحالة العربية مع مطلع العشرينيات. صحيح أن بعض مؤرخي الحركة الأدبية في مرحلة ما قبل الكولينالية، يدرج عمل أبي غنيمة ضمن الحركة الأدبية في بلاد الشام بعامة، ولكن بيئة العمل ونشأة الرجل وتاريخه بجانبيه الخاص والعام، السابق واللاحق على صدور المجموعة، ومسيرته العامة والثقافية، تجعل من السهل الاطمئنان إلى هذا العمل بوصفه مكونا مهما في الحركة الأدبية المحلية.
يقودنا ذلك إلى العلامة الثانية في هذا النشأة، وهي أن جيل الرواد من الأدباء والمبدعين والباحثين في الأردن، من مثل صبحي أبي غنيمة ومعظم مجايليه؛ روكس العزيزي وشكري شعشاعة وفؤاد الخطيب ومن جاء بعدهم بقليل من مثل عيسى الناعوري وحسني فريز وتيسير ظبيان وأمين فارس ملحس وعبد الحليم عباس وغيرهم من الجيل المؤسِسَ... كانوا من الأدباء الموسوعيين متعددي جوانب الإبداع، شأنهم في هذا شأن معظم الأجيال الأدبية المؤسسة في البلدان العربية الأخرى في عصر النهضة الأدبية في مصر وفي بلاد الشام، ولدينا طه حسين والعقاد في مصر مثالان معبران عن هذه الحقيقة في تاريخ الأدب العربي الحديث؛ فكلاهما كان أديباً موسوعياً كتب الرواية والقصة وكتب في النقد، والتاريخ الإسلامي، والسيرة، والمسرح. وفي لبنان يكفي أن نشير إلى تجربة جبران التي جمعت بين القصة والرواية والمقالة، التأملية بخاصة، والشعر والرسم والموسيقى... إلخ.
لم يكن الأردن إذن استثناء من هذه الظاهرة، فالملك المؤسس عبدالله الأول كان شاعراً وكاتبا باحثا وخطيباً، وكذا الأدباء ممن ذكرنا بعضهم؛ فمعظم هؤلاء وغيرهم جمعوا في نتاجهم بين الشعر والرواية والقصة والمسرحية والمقالة... إلخ.
صحيح أن «عرار» ظاهرة متفردة في شهرته شاعراً، ومع ذلك فإن له جهوداً يشار إليها بالبنان في السرد والمقالة وغير ذلك من فنون الكتابة النثرية.
أما العلامة الثالثة (بل الظاهرة) اللافتة حقاً للنظر، فهي أن القصة القصيرة قد نشأت في الأردن واشتد عودها قبل ظهور الرواية في هذا البلد، وذلك على خلاف ظهور هذه الأخيرة في الأقطار العربية الأخرى لعوامل اجتماعية وتاريخية وثقافية.
لقد ارتبط ظهور الرواية العربية بشكل أساسي بظهور الطبقة الوسطى، هكذا كان الأمر في الغرب، وهكذا كان في الشرق، وفي مصر في المقام الأول. ومن الطبيعي أن يستتبع أو يزامن بزوغ الطبقة الوسطى عامل ثان هو تطور الحياة الثقافية والأدبية. ذلك أن الرواية فن مقروء يتطلب مجتمعا قارئا ولو بقدر محدود، في حين أن نظم الشعر وتلقيه يستند إلى الشفاهة؛ لذا، فقد تسيّد الشعر الحياة الأدبية والفكرية العربية طيلة خمسة عشر قرنا على الأقل في مجتمعات ظلت أقرب إلى الأمية.
إن أياً من هذين العاملين لم يكن متحققاً في البيئة الأردنية، لنقل حتى أوائل الثلاثينيات، فبالنسبة للعامل الأول لم يشهد الأردن في تاريخه الحديث التكوين الطبقي الثلاثي المتوارث منذ القرون الوسطى وكان سائداً في مصر مع بداية عصر النهضة، أي منذ خلال القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين. هذا التكوين القائم على الطبقات الثلاث: الأرستقراطية الحاكمة، وتغلب عليها من الأصول غير العربية، والبرجوازية بفئيتها الكبيرة (أي طبقة الميسورين والأغنياء) والبرجوازية الصغيرة وهي الفئة الأكبر عددا في المكون البرجوازي، وتضم صغار التجار والحرفيين وصغار الموظفين ممن كان يطلق عليهم الأفندية، ثم هناك المكون الاجتماعي الثالث أي الطبقة الكادحة، طبقة الفلاحين والفَعَلة وعمال التراحيل وصغار الجند، وتشكل الأغلبية الساحقة من سواد الشعب.
وقد يحمل الاستشهاد بوصف مجتمع النصف بالمئة للحالة الاجتماعية في مصر بعض الفائدة المعرفية للتعبير عن الحالة الاجتماعية لواقع الحال في مصر قبل صدور قوانين الإصلاح الزراعي مباشرة بعد قيام ثورة يولية 1952 مباشرة، ويعني هذا التعبير أن 99.5 % من جموع الشعب المصري لم تكن تمتلك من مقدرات المجتمع أكثر من نصف بالمئة، في حين أن نصفاً بالمئة فقط من الطبقة الأرستقراطية (وبعض البرجوزيين الكبار) تمتلك 99.5 % من مقدرات البلاد.
بيد أن الأردن لم يعرف لا الطبقة الأرستقراطية ولا فئة البرجوازية الكبيرة، وربما عرف بشكل محدود جدا فئة البرجوزاية الصغيرة، قبيل تأسيس الكيان السياسي، فالأغلبية الساحقة كانت من الفلاحين والفعلة وصغار الحرفيين؛ لذا لم يكن هذا المجتمع مهيئا لفن جديد، كالرواية، وهو في الحقيقة فن الطبقة البرجوازية، التي ارتبطت بالحلم الرومانسي الفردي من جهة والتطلع نحو الطبقة الأعلى من جهة أخرى .
(2)
أما العامل الثاني، التأثر والتأثير فهو ثقافي في المقام الأول؛ ويقترن بوجود مؤسسات تعليمية وثقافية وصلات مباشرة في مجتمعات قطعت شأوا مهما في التطور العلمي والثقافي، ومع بداية القرن التاسع عشر كان لمصر قصب السبق بين الأقطار العربية في الإفادة مما حققه الغرب في ميادين الحداثة والتقدم، تبعها بعد ما يقرب من نصف قرن بعض أقطار بلاد الشام. وفي مصر بصفة خاصة تضافر العاملان الاجتماعي والعلمي في إحداث نهضة فكرية وحضارية تكاد تبلغ المستويات الأوربية، ولا عجب في هذا، فقد اكتسبت المناطق الأهم في القاهرة والإسكندرية والمدن الناشئة على ضفاف قناة السويس وبسياسات من الإسراف في التأورب اتبعها الخديوي إسماعيل، طابعا أوربيا صارخا. نعم لقد أصبحت القاهرة نسخة قريبة عن باريس، فكان أن هتف نقولا زيادة حين كان يجوب شوارعها وسط المدينة في الثلاثينات من القرن الماضي مع جماعة من كبار أدباء الشرق ومفكريه: والله إن هذه هي المدينة الحقيقية، وما دمشق وبيروت وبغداد وعمان إلا قرى في أثواب مدن. لم يكن يقصد العمران فحسب، بل كان يعني كذلك أنساق الحياة الاجتماعية في عاصمة كبرى ذات طابع كزوموبيليتي، أي متعدد الثقافات.
أضف إلى ما سبق أن عهد إسماعيل بالذات شهد بناء مؤسسياً حكوميا ًوأهلياً شاملا انعكس على الطبقة الوسطى التي ما لبثت أن أصبحت الطبقة الأكبر في مصر، وكم كانت هذه الطبقة في حاجة لفن جديد يعبر عن مطامحها ويستوعب تطلعاتها ويتسع لهواجسها وطموحاتها؛ إنه فن الرواية .... فن الطبقة الوسطى والفن الذي يجسد الطموح الفردي في مجتمع طبقي يعيش أفراده ولا سيما قطاع كبير من المتعلمين والمثقفين منهم، حلم الصعود إلى المجد البرجوازي بوسائله المتاحة التي مازالت قائمة إلى اليوم، وأهمها الارتقاء الطبقي بواسطة التعليم، وبالانتساب إلى سلك «الميري»، أو بالإصهار، أو بأي وسيلة كريمة أو حتى غير كريمة. لم تأخذ هذه الطبقة البازغة إذن مكانتها الجديدة كابراً عن كابر، بل كانت طبقة عصامية حققت ما حققته بالطموح الفردي.
إنها قصة البطل في الرؤية الرومانسية؛ حيث يعاني هذا البطل ما يعانيه فردياً لا يشاركه في أحلامه غير نجوم السماء والقمر والشجر، وكذلك قصة البطل الواقعي الذي يصنع واقعه بقدراته الفردية، ويبني مجده بجهده العصامي، وهي كذلك قصة قارئ العمل الروائي الذي يعيش الحلم الفردي نفسه فيقرأ في العمل الروائي نفسه ويعيش به ولو بالخيال مغامرته الخاصة؛ لذا لا عجب أن يطلق على هذا الزمان، زمن الرواية حقا.
فإذا أضفنا هذا العامل الاجتماعي أي ظهور الطبقة الوسطى، إلى العامل الثقافي، من مثل حركة التعليم والترجمة والصحافة والمؤسسات التي أعادت من جديد للنثر بهاءه وفصاحته ولكن بثوب عصري ينأى به عن آفتي السجع والاستطراد، من مثل القضاء والخطابة السياسية والأدبية والمقالة الصحفية، والأهم مما سبق كله مأثرة إسماعيل حين جعل العربية بديلا للتركية لغة رسمية للإدارة الحكومية فيما عرف بتعريب الدواوين، أي الدوائر الرسمية بلغة أيامنا.... إذا أضفنا هذه العوامل حق لنا أن نتبين بسهولة أن مثل هذا المجتمع مهيأ لظهور فن نثري جديد هو فن المدينة، وفن البروجوازية وفن الرومانسية... فن الروية. فكانت (زينب/1914) عملا فنيا «مكتملا» يكاد يحقق شروط الشكل الجوهري لفن الرواية الغربية كما كان عليه في القرن التاسع عشر.
وقريب مما شهدته مصر من تحول نهضوي ما شهدته بلاد الشام ولا سيما لبنان مع الأخذ في الاعتبار بأن بدايات النهضة في مصر غلب عليها الطابع العلمي لأن النهضة كانت مشروعا يتبناه الحاكم، في حين غلب على هذه البدايات الطابع الثقافي بجهود فردية أو استشراقية باشرته البعثات التبشيرية في بلاد الشام، ولا سيما في لبنان التي كانت تحكم حكما مباشرا من الوالي التركي على خلاف مصر التي كانت تتمتع باستقلال داخلي وبحكم محلي يرتبط اسميا فحسب بمقر الخلافة العثمانية في الآستانة.
أما في الأردن فقد كان الوضع مختلفاً بعض الشيء حين قيام الكيان السياسي في مطلع العشرينيات؛ فلا وجود لطبقة وسطى ولا أثر لحركة علمية. إذ قام التكوين الاجتماعي على نظام هجين يدمج بين نمطين أو طابعين زراعي ورعوي؛ وكانت الأمية عاملا مشتركا بينهما؛ ونسبة الذين يعرفون القراءة والكتابة (باستثناءات قليلة في الحواضر، ولا نقول المدن) تكاد تقترب من الصفر، وحين قامت ثورة الكرك (الهيّة) سنة 1910 شكلت السلطة التركية لجنة لدراسة الأوضاع خلصت إلى أن نسبة الذين يعرفون القراءة والكتابة في معظم مناطق شرق الأردن لا تتجاوز واحداً في الألف.
(3)
هذا ما كان الوضع عليه حين قدوم الأمير عبدالله إلى معان، فكان على الحكومات الأولى أن تبدا كل شيء من المربع الأول. على أن البيئة الزراعية أو بيئة البادية ميدان خصب للشعر بل يمكن القول إن هناك عدداً من الشعراء الكبار كانت مواهبهم قد تفتحت وقت قدوم الأمير مع مطلع العشرينيات، وربما قبل ذلك بقليل، من مثل مصطفى وهبي التل (عرار)، إضافة إلى بعض المثقفين الكبار والناشطين السياسيين من رجال الثورة العربية في الشمال والوسط والجنوب الذين حضروا في ركاب الأمير أو هو استقدمهم لأغراض الإدارة والتعليم. كما أن الأمير الشاعر استقطب حوله عدداً من الشعراء العرب الكبار مما أدى بالفعل إلى قيام حركة شعرية قوية في بلاطه. ولكن يظل للرواية شأن أخر، يختلف عن شأن الشعر وشأن القصة القصيرة كذلك.
من بعض الوجوه فحسب؛ فإن القصة القصيرة أقرب إلى الشعر منها إلى الرواية، ذلك أن القصة القصيرة، كما القصيدة، تتسم بوحدة الانطباع. بمعنى أن يكون الحدث المركزي في القصة مرجعاً لكل المواقف والعواطف المشعة أو ذات الصلة بهذا الحدث. وهو ما نلاحظه في القصيدة مهما تنوعت الشطحات (مع الاعتذار عن هذا التعبير) وتعددت الموضوعات وتشابكت الصور الفنية وتراكمت الأغراض الشعرية، سواء انبعثت عن تجربة شعورية تكون بمثابة محفز أو مناسبة. كما أنه من النادر في الشعر الغنائي بخاصة أن تبرز في النص أية «أنا» أخرى (إن جاز التعبير) تضفي على القصيدة عنصرا دراميا، باستثناء الأنا الشاعر أو من يستدعيه وجدانه بالتداعي، وهكذا فإن ثمة مرتكزين مشتركين مهمين بين القصيدة والقصة القصيرة؛ وحدة الحدث في القصة القصيرة، وما يقابلها في القصيدة من وحدة التجربة الوجدانية، ووحدة الجو النفسي الذي يحيط بالقصيدة ووحدة الشخصية في القصة، وما يقابلها من وحدة الأنا في القصيدة الغنائية.
ولعله بات من الواضح الآن لماذا ظهرت القصة القصيرة قبل الرواية في تجربة السرد في الأردن، فالقصة تتسم بالاستيحاش (بحسب تعبير أوكونور) أو وحدانية العالم، بمعنى انشغالها بالتعبير عن تجربة شعورية تكاد تقتصر على الشخصية الواحدة، وعلى خط درامي واحد. بخلاف الرواية الفن الأكثر تعقيدا؛ الذي يحتاج إلى عالم متشابك لا يمكن أن يوفره سوى استلهام من مجتمع متشابك كمجتمع الطبقة الوسطى.
وفي حين يمكن الاطمئنان إلى حقيقة تاريخية شبه ثابتة تقول إن العمل القصصي الأول في الأردن كان (أغاني الليل/1923) فإن النقاش ما زال محتدماً إلى اليوم حول العمل الروائي الأول في هذا البلد، فثمة من يذكر العمل المفقود لعقيل أبي الشعر أي رواية (الفتاة الأرمنية في قصر يلدز/ 1912) وأعمالا أخرى أقرب إلى المحاولات أو بدايات البدايات لأسماء غير معروفة بشكل كاف من مثل محمد أمين الكيلاني ومحمد المحيسن وأديب رمضان وغيرهم. ولكن يمكن الوقوف مثلا عند «روايات» قصيرة أقرب إلى القصص الطويلة ظهرت بعد مجموعة «أغاني الليل»؛ من مثل «أبناء الغساسنة» لروكس بن زائد العزيزي التي طبعها في دمشق سنة (1935) و (أين حماة الفضيلة / 1940) لتيسير ظبيان أو حتى طويلة ولكنها أقرب إلى التأريخ الشخصي مثل (ذكريات/)1945 لشكري شعشاعة ولعل الأجدى أن نزحف بالزمان قليلا إلى أمام فنذكّر بأعمال عيسى الناعوري وحسني فريز وكامل الملكاوي ومحمد سعيد والجندي وغيرهم في الأربعينيات والخمسينيات وهما العقدان اللذان شهدا تحولات اجتماعية كبرى؛ فباتت الطبقة الوسطى العمود الفقري للمجتمع وقادت المجتمع نحو إنجازاته في مجالات التطور كافة، ولا سيما التعليم والثقافة والأدب، على أن الأعمال الروائية «المكتملة» لم يقدر لها أن ترى النور إلا مع نهاية الستينيات ومطلع السبعينيات، وتلك هي الحكاية الأطول ولعلها الأجمل. فكان لابد للفن الروائي أن يتسنم دوره الطليعي في التعبير عن الطبقات كافة، وحمل تطلعاتها واستيعاب هواجسها وانتصاراتها وكبواتها وأحلامها وآمالها وآلامها كذلك، بأدوات مشحوذة وأساليب متقدمة ورؤى منبعثة من روح المرحلة. ورحم الله تيسير السبول وغالب هلسا وغيرهما... في الوقت الذي ظلت فيه القصة القصيرة تسير بثبات جنبا إلى جنب مع مسيرة الرواية فتتقاسم مع هذا الفن صدر ديوان الإبداع الأدبي، وهذه المرة في «زمن السرد».