الغد
أظهرت تجربة الفلسطينيين مع الرعاية الأميركية -من “أوسلو”، إلى “صفقة القرن”، وصولًا إلى إقرار خطة ترامب في مجلس الأمن، أن واشنطن لا تعتبر الفلسطينيين طرفاً سياسياً متساويًا، وإنما حالة يجب إدارتها وضبطها وتوجيهها وضمان ألا يكون الفلسطينيون طرفًا في شيء، بما في ذلك تقرير مصيرهم.
وبينما تعامل أمن الكيان الاستعماري الإبادي واستمرايته كقيمة مطلقة، يُطلب من الفلسطينيين دائماً دفع الثمن: التنازل، التفكك الذاتي، الامتثال، الانضباط، والخضوع لشروط الآخرين والانتظار، ثم الانتظار، والمزيد من الانتظار.
لم يخرج القرار الأخير لمجلس الأمن عن هذا السياق. ولم تكن حصة الفلسطينيين فيه أكثر من مجرد ردّ الفعل وهم المجردون من الحق في الفعل. وكان رد فعلهم متباينًا حد التناقُض، كما يُراد لردود فعلهم أن تكون. ثمة الموقِف الفلسطيني “الرسمي” الموافِق، الذي يتوقف وجوده نفسه على الموافقة. وثمة الصوت الشعبي الفلسطيني المُهمل، المكتوم والمغيّب عَمدًا، والذي يُعتبر غير موجود كآلية لإخراج معظم الفلسطينيين من دائرة الاعتراف والوجود.
يتفق هذا القسم الثاني الكبير الفلسطينيين مع المراقبين الخارجيين العادلين في رؤية أن قرار مجلس الأمن يفرض على الفلسطينيين خطة ترامب من دون مشاركتهم، ويُكرّس احتلالًا أجنبيًا جديدًا بـ”مجلس سلام” يرأسه ترامب. ويؤسس “قوة الاستقرار الدولية” بطريقة تتجاهل بالكامل حق الفلسطينيين في تقرير المصير وتعفي الكيان من المساءلة عن الاحتلال والإبادة وجرائم الحرب. ويمنح القرار سلطة واسعة لأميركا لإدارة غزة، والتحكم بالمساعدات، ونزع السلاح، والتنسيق مع الكيان الصهيوني – وهي كلها ترتيبات تعمّق التفتيت، وتسّهل استمرار الإبادة، والضم، والفصل العنصري.
وبذلك يكون يُسوَّق كمسار نحو التهدئة في حقيقته نظام سيطرة جديد يجرّد الفلسطينيين من أي بقايا للسيادة.
في الأسبوع الماضي، عبر عن الرفض الشعبي الفلسطيني لهذا الترتيب بيان مشترك وقعته “شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية” التي تضم نحو 135 منظمة فلسطينية حقوقية غير حكومية، و”مجلس منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية” الذي يضم منظمات حقوقية بارزة مثل “الحق” و”الميزان” و”الضمير”.
ومما جاء في البيان:
“صوّت مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، يوم الإثنين، 17 تشرين الثاني (نوفمبر) 2025، لصالح القرار 2803 الذي يٌكرس الاحتلال الاستعماري للأرض الفلسطينية. وقد فُرِض هذا القرار على الشعب الفلسطيني دون موافقته، في انتهاكٍ صارخ لحقه غير القابل للتصرف في تقرير المصير.
وقد أوضحت الولايات المتحدة وحلفاؤها أن هذا المخطط يجب أن يُقبَل ويمُر، مهددين “بإنهاء المهمة”، في إشارة صريحة إلى استئناف الإبادة الجماعية في غزة. ووفقًا للقانون الدولي، فإن مثل هذا التهديد باستخدام القوة يُبطِل أي ادعاء بوجود موافقة.
“لقد صيغ قرار مجلس الأمن 2803، المُستند إلى “الخطة الشاملة لإنهاء صراع غزة” (الخطة ذات النقاط العشرين) التي أعلنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب في أواخر أيلول (سبتمبر) 2025، دون مشاركة ممثلي الشعب الفلسطيني.
وبدلاً من أن يُعطي الأولوية لحقوق الشعب الفلسطيني الأساسية ولتحقيق المساءلة عن الجرائم الدولية التي ارتكبتها إسرائيل، تُكرّس الفقرة 4 من القرار فرض شكل جديد من الاحتلال الأجنبي من خلال تنفيذ الخطة الأميركية عبر إنشاء ما يسمى بـ“مجلس السلام” برئاسة الرئيس ترامب. وسيُمنح هذا المجلس سلطات واسعة ومستقلة تشمل إدارة الموارد المالية، والهجرة، والإدارة المدنية، وإعادة الإعمار في غزة، وغيرها من المهام، دون أي آلية رقابة أو مشاركة فلسطينية ذات شرعية.
ونشدد على أن أي وجود فلسطيني شكلي داخل مجلس السلام لا يبدّل من طبيعته الأجنبية المفروضة على الشعب الفلسطيني”.
في البيان، رأت المنظمات المدنية الفلسطينية أن القرار 2803، يثير مخاوف مشروعة من استخدام المساعدات الإنسانية كوسيلة للضغط والسيطرة على الفلسطينيين، من خلال سلطة إدارية دولية تقودها الولايات المتحدة، وتتعاون مع جهات متورطة في الإبادة الجماعية مثل “مؤسسة غزة الإنسانية”. كما يخطط “مجلس السلام” للتنسيق المباشر مع الكيان الصهيوني في إدارة غزة، بما ينذر باستمرار الانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي الإنساني.
وتقدّر المنظمات الفلسطينية أن ترتيبات خطة ترامب/ قرار مجلس الأمن المذكور، تُخضَع غزة لاحتلال فعلي تديره الولايات المتحدة من خلال “قوة الاستقرار الدولية”، المكلفة بنزع سلاح غزة على الرغم من عدم وجود أساس قانوني لذلك، وبما يخالف “البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف” الذي يقرّ بحق الشعوب في مقاومة الاستعمار.
وتشير الأدلة، بتقدير المنظمات، إلى أن القوة تعتزم التعاون مع ميليشيات محلية متطرفة شاركت في الإبادة الجماعية، مما يعرض السكان لمخاطر متزايدة، ويعكس إخفاقًا خطيرًا لمجلس الأمن في حماية السلم والأمن الدوليين.
في الوقت نفسه، كما تقدّر المنظمات، يواصل الكيان الصهيوني ترسيخ احتلاله بالتمركز داخل “منطقة أمنية” تمتد على طول غزة وتسيطر على المجالين الجوي والبحري، ويمهد لمزيد من الضم وتعميق نظام الفصل العنصري والنكبة المستمرة للشعب الفلسطيني.
وترى المنظمات الحقوقية الفلسطينية أن القرار يجعل الأمم المتحدة طرفًا متواطئًا في جرائم الكيان حين يتجاهل المساءلة، ويتغاضى عن الإبادة الجماعية والانتهاكات الموثقة، ويُكرّس الإفلات من العقاب.
ويعتبر المجتمع المدني الفلسطيني القرار خطوة خطيرة تُعمّق تفتيت فلسطين، وتعزل غزة عن محيطها عن طريق فرض احتلال أجنبي غير محدد الصلاحيات يشرف على الإعمار ويُقصي الفلسطينيين تمامًا عن إدارة شؤونهم.
وينتقد البيان أيضًا دعوة القرار المؤسسات المالية الدولية إلى منح قروض تُغرق غزة في الديون بدل المطالبة بالتعويضات، ويفتح الباب أمام استغلال الموارد الطبيعية للقطاع من دون ضمانات لحمايتها، خاصة الغاز في المياه الإقليمية.
ويتعارض القرار مع آراء “محكمة العدل الدولية” التي شددت على ضرورة ضمان دخول المساعدات بلا قيود عبر الأمم المتحدة، بينما يمنح القرار “مجلس السلام” سلطة التحكم بالمساعدات واستعمالها كأداة ضغط.
كما يتجاهل القرار حق اللاجئين في العودة، ويصطدم بالقواعد الآمرة في القانون الدولي التي تعلو على أي قرار لمجلس الأمن، بما يهدد استقرار النظام القانوني الدولي.
وفي ختام بيانها، تدعو المنظمات الفلسطينية الموقِّعة المجتمع المدني والدولَ إلى رفض القرار واتخاذ خطوات ملموسة تشمل: حماية الحقوق غير القابلة للتصرف، وعلى رأسها تقرير المصير وحق العودة؛ وتفكيك نظام الفصل العنصري؛ وإنهاء الاحتلال؛ وإنشاء آليات مستقلة للمساءلة؛ وإشراف أممي على الإعمار بمشاركة فلسطينية؛ وفرض عقوبات على الكيان؛ وضمان التزام الدول بآراء “محكمة العدل الدولية” وواجب حماية الشعب الفلسطيني.
هذا هو الرأي المُهمل لشريحة وازنة من الفلسطينيين، إن لم تكن غالبيتهم، فيما حيك لهم بليل.