الغد
جاء خطاب العرش في افتتاح برلمان 20 يوم الإثنين الماضي، ليؤكد، من جديد، على جملة الثوابت الأردنية، والتي لم تكن في الأصل في حاجة إلى تأكيدات جديدة، فقد اعتمدها الأردن منهجا معلنا وواضحا منذ تأسيسه قبل قرن من الزمن.
لكن، أحيانا نحتاج إلى تعريف المعرف، وتسمية الأشياء المسماة في الأصل، لا لشيء إلا لكي نعيد التذكير بأن الاجتهادات المرتجلة، والمزاودات الفارغة التي لا ترتكز على بعد نظر حقيقي، لا مكان لها في السياسات الراسخة التي لا تملك الرؤية الكلية، والتي تعمد إلى قياس الأشياء بـ"القطعة"، ومن خلال عملية غير متصلة.
محتوى خطاب العرش لم يأت لكي يقول بأنه ما من تحديات أمام المملكة اليوم، بل على العكس من ذلك تماما، فقد أشر جلالة الملك إلى جملة من التحديات التي يتوجب علينا التعامل معها بكل شفافية، سواء كان ذلك على صعيد الوضع الداخلي والذي تم تحديد مسارات تحديثية له على جميع المستويات، أو صعيد الوضع الخارجي الإقليمي، والجغرافيا السياسية التي مني بها الأردن، وهو تموضع لا يحسد عليه، خصوصا أنه جنة سلام وأمن وسط محيط يشتعل بالنيران، ويحاول كل ما يستطيع لكي لا تطاله تلك النيران.
ولعل المسألة الخارجية الأهم التي يولي الأردن اهتمامه لها، ويعتبرها واحدة من ركائز الأمن القومي، هي الصراع العربي الإسرائيلي، خصوصا مع العدوان الأخير الذي يمتد على مدار أكثر من عام، ومحاولات الاحتلال الجادة في تنفيذ إبادة جماعية وتطهير عرقي، من خلال سياسات قتل جماعية متعمدة للمدنيين، وترهيبهم للرحيل عن أرضهم.
في سياق هذه القضية، ولتثبيت رؤيته الراسخة للصراع الأساسي في المنطقة، يؤكد الأردن على لسان جلالة الملك بأننا "دولة راسخة الهوية، لا تغامر في مستقبلها"، وأن "مستقبل الأردن لن يكون خاضعا لسياسات لا تلبي مصالحه أو تخرج عن مبادئه"، وهي إشارة إلى أن الارتجال لا مكان له في ذهن صانع السياسات، ولا يمكن أن يكون من الأدوات التي تصنع فرقا في حياة الأردني، فما نحتاجه هو بعد نظر يستطيع استجلاء اللحظة التاريخية الفارقة التي تمر بها المنطقة اليوم، والتغيرات في المعادلات السياسية التي تتأثر بها، ووضع السياسات الواقعية والقابلة للحياة لكي لا تكون الخسارات كبيرة.
اليوم، تعيش المنطقة وسط دوامة عنف وضوضاء كبيرة، وملامح لامتداد النزاع عبر أكثر من دولة، والأردن يعي تماما المخاطر التي تحيط به، وهو لا يبدل سياساته ولا قناعته ولا جلده، بل ينطلق في كل خطوة يخطوها من استلهامه لدوره العروبي الهاشمي الكبير، وفهمه لحقيقة ما تحتاج إليه المنطقة من سلام، لكي يعيش أبناء المنطقة في أمن، ويحاولوا بناء مستقبلهم من دون أن تؤثر عليهم مخاوف الموت والترحيل وعدم الاستقرار.
لقد ظل الأردن مؤمنا على الدوام، بأنه لا يمكن أن يكون هناك استقرار ولا أمن، ما دام العالم متعاميا عن المظلومية التاريخية للشعب الفلسطيني، والذي تعرض لأبشع الممارسات على مدار أكثر من سبعين عاما، وهو يؤكد دائما أن وصفة العلاج الناجعة لكل مشاكل المنطقة هو اعتراف بدولة فلسطينية على خطوط الرابع من حزيران، وعاصمتها القدس الشرقية، على ألا تكون كيانا شكليا، بل دولة قابلة للحياة.
هذا هو مفهوم الأردن لاستقرار المنطقة، وإلى حين تجد الوصفة الأردنية مهتمين في عواصم القرار العالمية، ستبقى المنطقة العربية أرضا خصبة للنزاعات والحروب، ما يهدد، ليس المنطقة فحسب، بل استقرار وأمن العالم كله.