عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    14-Jul-2024

الأدب الملتزم بالنضال.. غسان كنفاني مفكرا وسياسيا

 الغد

استشهد الأديب الفلسطيني غسان كنفاني صبيحة يوم 8 تموز (يوليو) 1972 ضمن حملة اغتيال وتصفية عدد من قادة الثورة الفلسطينية ولم يتجاوز سنه حينها 36 عاما، فترسخت صورته أديبا ثوريا شابا لم يكبر، وشاهدا باقيا على الإجرام الصهيوني الذي لم يكتف بالاحتلال والتشريد، وإنما تفنن في إنتاج صنوف من الجريمة والإبادة والمحو.
 
وتأتي ذكرى استشهاد غسان هذا العام متزامنة مع استمرار حرب الإبادة التي يواجهها الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية وامتدادها إلى ساحات أخرى تدل أحداثها على عقلية استعمارية تبادر بالقتل والتدمير والاغتيال، لتمد عمر احتلالها وتفرض وجودها بالقوة والنار.
 
تزامن ميلاد غسان كنفاني في 9 أبريل 1936 مع إرهاصات ثورة عام 1936 المعروفة في التاريخ الفلسطيني، إذ لم تلبث الثورة أن اشتعلت وأعلنت الإضرابات والمواجهات، وكأن هذا التزامن هو ما حكم حياة كنفاني على نحو واقعي وقدري في آن، فكانت سنواته الأولى المبكرة هي ذاتها عمر تلك الثورة المعبرة عن رفض الاستعمار البريطاني ومعاونته الوجود الصهيوني واتساع الهجرة إلى فلسطين، وفق ما نشر على موقع "الجزيرة نت".
بدأ غسان من الثورة ومعها، وحين بلغ سنوات صباه كانت حادثة النكبة المزلزلة عام 1948 وكان عمره 12 عاما، فهاجر مع أسرته إلى لبنان وصولا إلى دمشق، وتابع أطرافا من نكبة فلسطين وتشرد أهلها وأكمل دراسته في دمشق، ثم التحق بجامعتها، لكنه لم يتم دراسته ربما بسبب حياته المختزلة السريعة، فقد اتجه إلى العمل السياسي والكتابة الأدبية، وسافر إلى الكويت للعمل في مدارسها.
كما التحق بحركة القوميين العرب ونشط في إطارها، كل ذلك في سنوات متقاربة، كأن غسان المتعدد يحاول اللحاق بالزمن، ورغم إصابته بمرض السّكر منذ شبابه المبكر وتعرفه إلى أجواء المشافي في الكويت فإنه قرر ألا يسمح للمرض بأن يتدخل في حياته، بل إنه كتب من وحي تلك التجربة بعض قصصه، كقصة "موت سرير رقم 12" عن شخصية حقيقية لمواطن باكستاني مجهول اسمه محمد علي أكبر، وأطلق اسم تلك القصة على مجموعته الأولى.
ومن يتأمل الجهد الإبداعي للراحل يدرك أنه سعى لأن يعطي عطاء متميزا في كل عمل اهتم به، وأن انشغالاته النضالية والإعلامية لم تأخذه من الحقل الأدبي الأثير عنده، بل إنه تمكن من الموازنة بين سائر نشاطاته، وطوّر مفهوما خاصا للأدب المقاوم، بحيث يكون للأدب دوره في المعارك المصيرية وفي سياق التجربة الفلسطينية على نحو خاص.
وقد كان غسان يمثل المبدع الملتزم كأفضل ما يكون الالتزام، لكنه التزام مشروط بالجمال ومعاييره ومحدداته، ولذلك كثيرا ما حاول في مقالاته أن يميز بين الأدب كحقل له خصوصيته الجمالية وبين العمل السياسي وطبيعته المغايرة أو المختلفة.
الالتزام عند غسان كنفاني مشتق من طبيعة حياته والتصاقه بالهمّ الفلسطيني الوطني التصاقا مبنيا على صدق التجربة وعلى الوعي بتوجيهه وإغنائه بالإبداع والممارسة، بمعنى آخر لم يكن الأدب ولم تكن الفنون الإبداعية بوقا للسياسة أو للشعارات أو التوجهات الحزبية، ومن يمارس الأدب يعرف صعوبة شروطه ويعرف اختلاف التعبير الأدبي عن أي تعبير آخر مهما يكن محترما أو نبيلا.
كأن غسان حاول أن يكون أديبا ضمن أصعب معايير الأدب دون احتجاج بضرورات التعبير، فكانت معادلته صعبة، لكنها مطلوبة ومشروعة، فالأديب الملتزم في مواقفه ورؤيته هو أدعى الناس للالتزام بالشرط الجمالي للإبداع.
بالإضافة إلى كتاباته الأدبية المعروفة فقد ترك غسان كتابات سياسية وفكرية مهمة من الناحية التاريخية ومن ناحية إضاءتها لمعارفه ومواقفه، وهو وإن كان مثقفا ماركسيا قوميا فلسطينيا بصورة من الصور، فإن هذا الموقف العام يحتاج إلى توقف وانتباه، فصحيح أنه تأثر ضمن تأثر حركات التحرر الفلسطينية بتأثيرات الماركسية والقوى اليسارية بألوانها المختلفة لكن قراءة كتاباته السياسية تفيدنا باحتفاظه بروح نقدية أصيلة انتبهت إلى اختلافات حاسمة بين الماركسية السوفياتية وما يراد من تطبيقها أو استعارتها، ويعود جزء من هذا الوعي إلى اختلاف حركة القوميين العرب مع الشيوعيين في الخمسينيات وبداية الستينيات حتى عام 1967، أي قبل ظهور الجبهة الشعبية وتبنيها الخط الماركسي، بصيغة مختلفة عن تبني الشيوعيين العرب الماركسية.
وقد كتب عنه صديقه الأكاديمي والمفكر الفلسطيني فضل النقيب مرات عدة بحميمية ودقة، وهو أحد أصدقاء نضاله منذ بداياته في دمشق "إنه كان قبل كل شيء فنانا، لم يكن التزامه الأساسي سياسيا أو أيديولوجيا، وإنما كان فنيا، ومع هذا قاده هذا الالتزام الفني إلى مركز النضال الثوري، وهكذا لم يكن غسان كبقية الفنانين ولا كبقية الثوريين، فقد كان مختلفا عنهم.
وهذا الاختلاف بين السياسة والأدب ليس اختلاف تناقض وإنما مرده اختلاف الأدوات بين العالمين، وإدراك غسان نفسه لهذا الاختلاف وعدم ارتهان رؤيته الأدبية لسقف السياسة والحركة.
آمن غسان كنفاني بالمقاومة فكرا وعملا كما مر بنا، وفي إطارها كانت تجربته كلها حتى استشهاده، وفي دراستيه عن أدب المقاومة ودراسة ثالثة عن الأدب الصهيوني ما يلقي الضوء على هذا الجانب المهم، قبل الالتفات إلى رواياته التي تتصل بهذا الجانب الحيوي.
 
أدب المقاومة في فلسطين المحتلة 1948-1966
صدرت طبعته الأولى عام 1966، وقد عرض فيه أدب المقاومة بعد النكبة، والبطل العربي في الرواية الصهيونية مقابل أدب المقاومة.
وفي القسم المتبقي من الكتاب نماذج من أدب المقاومة تعد من النماذج المبكرة التي نشرت خارج الأرض المحتلة لتوفيق زياد ومحمود درويش وسميح القاسم وسالم جبران وغيرهم.
يقول "مقابل أدب المقاومة العربي في فلسطين المحتلة يقف الأدب الصهيوني جزءا من حركة الثقافة السياسية في الأرض المحتلة وواحدا من الضغوط الأساسية التي تتصدى لأدب المقاومة العربي هناك، لا للتأثير عليه وسحقه فقط، بل أيضا لتشويهه على الصعيد الداخلي ومحوه على صعيد الدعاية الخارجية.
وتعرض غسان لأعمال أخرى كثيرة في دراسته تدل على مبلغ جهده لمعرفة العدو من خلال أدبه حتى بدا له واضحا في العراء.
وانتهى بعد تطواف طويل إلى "أن أدب المقاومة لا يتساءل، فهو يعرف طريقه جيدا، وهو واثق منها إلى أبعد الحدود آملا بنهايتها إيمانا لا يتطرق إليه الوهن، وبإيجاز إن أدب المقاومة العربي يحارب على جبهتين، جبهة التوعية والتعبئة، وجبهة الرد عامدا أو غير عامد على الأدب الصهيوني، ويثبت جدارته على الجبهتين كلتيهما إثباتا لا تردد فيه، ذلك أنه بالإضافة إلى القضية الكبيرة التي يعيها ويتصدى لها ينطلق من إيمان عميق بالتزام ذاتي لا يتزعزع ويعي تماما ما قيمة التزامه ومهمة ذلك الالتزام الحياتي".
وقد أكمل غسان جهده بإصدار كتابه الثاني بعدما توفرت له نماذج شعرية وقصصية أوسع من أدب المقاومة في فلسطين المحتلة عام 1948، وأعد بحثه الجديد متوسعا ومحللا ومكملا بعض ما أومأ إليه في بحثه الأول.
ولقد أبدى غسان إعجابه بمسرحية "بيت الجنون" لتوفيق فياض التي نشرها هو في ملحق الأنوار البيروتية، مما يشير إلى دور غسان في تشجيع أدب المقاومة ونشره، فضلا عن نقده كما في هذه الدراسة والإسهام فيه كما في أعماله الروائية.
وفي ضوء هذه المسرحية المهمة تاريخيا وفنيا استخلص غسان أن "أدب المقاومة في فلسطين المحتلة قد ربط ربطا محكما بين المسألة الاجتماعية والمسألة السياسية، واعتبرهما طرفين في صيغة لا بد من تلاحمهما، لتقوم بمهمة المقاومة، وقد مضى ذلك الأدب إلى أبعد من هذا حين أدرك في وقت مبكر أيضا الترابط العضوي بين قضية مقاومة الاحتلال الإسرائيلي وبين قضايا التحرر في البلاد العربية وفي العالم، وعلى هذه الجبهات جميعها بكل تعقيداتها خاض أدب المقاومة في فلسطين المحتلة معركة التزاماته.
أما كتابه الثالث ضمن هذه البؤرة النقدية البحثية فقد حمل عنوان "في الأدب الصهيوني" (ط1: 1966)، وهو أيضا كتاب رائد من الناحية التاريخية ضمن مبادرات كنفاني ووعيه بصعوبة المعركة وخطرها على كل الأصعدة.
وقد قسم الكتاب إلى 5 فصول تعطينا عناوينها فكرة مبدئية عن طبيعة دراسته وشمولها: الصهيونية تقاتل على جبهة اللغة، ولادة الصهيونية الأدبية، العِرْق والدين في الأدب الصهيوني يستولدان الصهيونية السياسية، شخصية اليهودي التائه.. نشأتها وتطورها، الأدب الصهيوني يضبط خطواته مع السياسة، العِصمة اليهودية أمام عدم جدارة الشعوب الأخرى، المبررات الصهيونية أمام اغتصاب فلسطين، من جائزة نوبل إلى عدوان 5 حزيران.
ومن موقع تقديره العالي لأدب المقاومة ولثقافة المقاومة أراد لها أن تكون مقاومة متميزة تلتزم بشروط الجمال وبأعلى اعتبارات الفن بعيدا عن الخطابة الانفعالية والشعارات الرنانة.
ونجد مصداق ذلك في إنتاج غسان نفسه الذي يعد نموذجا للأدب بشروطه الأدبية الذاتية ونموذجا للوعي المقاوم الذي يتفاعل معه القارئ العادي حتى لو لم يكن معنيا باشتراطات الأدب وتفاصيله الجمالية، كما نجد تأكيدا لذلك في ما كتبه كنفاني مرارا في نقده بعض الإنتاج المحسوب على المقاومة، ولكنه ضعيف من الناحية الفنية، مثل هذا الإنتاج يقسو عليه كنفاني، إذ يرى فيه استهتارا بالمقاومة والفن وتشويها لهما معا.