عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    09-Sep-2024

مواجهة النسق المهيمن وانعكاس دلالته المضمرة في السرد القديم

 الغد-عباس خلف علي

تدور فعاليات النصوص السردية العربية القديمة في نمط ثنائي: السارد مثقف، ومتلق صاحب سلطة، القراءة العابرة توحي برضوخ الثقافي للسياسي، لاسيما عندما يلبي السارد المثقف أوامر المتلقي المتسلط فيباشر الحكي، غير أن القراءة المتقصية تكشف عن صراع مستديم، ثبت من خلاله أن الفعالية الثقافية قادرة على تدجين الفعل السلطوي ودفعه إلى التخلي عن شروره. ألم تستطع شهرزاد ترويض السلوك الوحشي لشهريار؟ ألم يتعمد بيدبا سرد حكايات اليافعين وبسطاء العقل والتفكير وكأنه يحشر دبشليم ضمن هذه الزمرة؟ ألم يثبت أبو حيان التوحيدي للوزير ابن سعدان، أن السلطة في حاجة إلى الفعل الثقافي والمعرفي؟ وهذا يعني أن قوة الحكاية تعزز موقفها من خلال المعارف التي تؤدي بالتالي إلى صيغ إسنادية مقنعة.. هذه الصيغة بدورها تحيل إلى سلطة السارد الذي يرى في سلطة الإنصات المتمثلة ببعدها السياسي والديني، مدى هشاشتها بعد تقويض هيمنتها وتحويلها إلى مجرد الإصغاء أو الاستماع، حيث نجد مثلا شهرزاد ابنة الوزير، واعية لدورها في سرد الحكاية لما تتمتع به من قدرات ثقافية وذهنية متقدة في استحضار تجارب الأمم الماضية، وأخبار سير الملوك، ومتفحصة لمعالم كتب التاريخ والأحداث، ولهذا تهاوت السلطة الموهومة لشهريار أمام المعارف المتعددة التي تختزنها في الذاكرة. تقول سعاد مسكين في كتابها «خزانة شهرزاد» إن تنوع الحكي لمرويات شهرزاد ما بين الإطارية والانشطارية، تتخللها شخصيات أدبية خيالية منها علاء الدين والمصباح السحري وعلي بابا والأربعين حرامي ومعروف الإسكافي والشاطر حسن وعلي زيبق المصري والسندباد البحري، كل ذلك نجده قائما على تنوع أسطوري ساحر، مليء بالحكايات الجميلة والحوادث العجيبة والقصص الممتعة والمغامرات الغريبة، عالم يعبره القارئ بمركبه الروحي في أجمل رحلات الاستمتاع النفسي، ينتهي منها مفتوناً، مأخوذاً بصور الجمال الباهرة، والأحداث المتداخلة، والسرد العفوي أحيانا، وهذا كله يتشكل بما يسمى اصطلاحا، بالجنس السردي الكلي العام الذي اندرجت تحته ثلاثة أنواع سردية هي، بسيطة أدخلت فيها الخبر والحكاية، ومركبة وتشمل القصة والسيرة الشعبة، ومختلطة، فيها عرض ومواقف رأي الشخصيات، هذه الوظائف تمنحنا نمط وشكل الخطاب الذي ينصب على قوة الصانع في اختراق منظومة السلطة وانهيارها .
كذلك نلمس قوة الحكاية في فكرة الحياكة التي أكسبت بينيلوبي مهارات وقدرات للمناورة في إبعاد الطامعين والمتربصين بالعرش بعد غياب زوجها عوليس أو (أديسيوس) هؤلاء جميعهم من النبلاء حاصروا قصرها وطلبوا منها القبول بالزواج من أحدهم فقامت بإقناعهم بالانتظار ريثما تنتهي من حياكة ثوب العرس، وهو نوع من الدهاء المبطن، الذي يمكنها من التشويش على حماقة رغبات النبلاء والمراوغة في كسب الوقت، أي إتقان تسخير المؤجلات التي تقابلها فكرة حياكة البدلة في الصباح وفي المساء تحل ما حاكته..
هي لم تشكك في رحلة زوجها ومغامراته في البحر، ولا تضع في حسابها انتقام الآلهة وغضبها عليه، كما يشاع في المدينة، بل هي كانت تدرك مدى حبه لوطنه أيثاكا، وبهذا الإحساس كانت تصوراتها متفائلة إلى حد بعيد بثباته، مهما اشتدت عليه الملمات بأحزانها ومخاطرها، حيث لم يخالجها أو يساورها الشك بهزيمته واندحاره أو موته، على الرغم من عودة أغلب المحاربين بعد حصار طروادة إلى بيوتهم، من غير أن يهتز يقينها نفسيا وشعوريا ويقلل من شأن عزيمتها على التواصل، وهكذا بدت فكرة الحياكة ملاذا موائما لفكرة الانتظار، وتجاوزا لفكرة الذات المستلبة، وخلق نوع من الطمأنينة، التي تمكنها من التحلي بالصبر على مواجهة المساعي الخبيثة المتربصة بها ..
ياوس أشار لأفق الانتظار من منطلق افتراضي يسعى إلى تشكيل حضور للمعنى الغائب.. هذا المعنى الذي وضع الحقيقة أمام قضية الإدراك كوسيلة مقنعة، سماها في ما بعد تشومسكي «الكفاءة التواصلية» بحيث استطاعت بينيلوبي أن تنسج من فكرة الحياكة المفترضة تصورا لا يستند إلا إلى الوهم في التعبير عن الحقيقة، وبذلك يصبح نسق المحكي، أو المروي مضمرا يخفي مراميه ومقاصده وراء الهدف، نسق مراوغ يلعب على شيفرة إبعاد الشبهات.. هذا التماهي وفر الكفاءة والقدرة على الأداء وقام بإنتاج الصور والأخيلة المؤجلة، التي ساهمت وبشكل فاعل في رسم أفق للانتظار الذي تقاطع عند بيكت في مسرحيته المعروفة «في انتظار غودو» لكنه تحقق عند بينيلوبي الحلم، وعاد عوليس إلى مدينته إيثاكا وقصره، وانتقم لها من النبلاء المتربصين بالنيل منها.
وهكذا نجد أن المحمولات الفكرية التي تمخض عنها ابتكار نموذج الحياكة، تمكنت من اختراق سبل الهيمنة وتقويض سلوكها وتصرفها، وهذا يعني أن المبدع وإن يتماهى أحيانا فإنه لا يمكن أن يحيد عن هدفه في بلوغ الغاية المنشودة ..وهذا ما نراه أيضا في نص ـ كليلة ودمنه ـ الذي كتبه الفيلسوف الهندي بيديا، ويعني اسمه باللغة السنسكريتية القديمة، رجل البلاط، نقله للعربية بتصرف عبدالله ابن المقفع، في القرن الثامن الهجري. معظم شخصيات الكتاب من الحيوانات والبهائم، فهذا الكتاب جاء نزولا عند رغبة الملك دبشليم في أن يؤلف كتابا تتناقله الأجيال وتتحدث عنه، بينما الحقيقة، أن بيديا كان معترضا على طريقة حكم دبشليم الباطشة والمتجبرة، ونتيجة لهذه السياسة المتعجرفة، أصاب الناس الهلع والخوف من عدم الاستقرار، وفقدان الأمان، وتفشي الهرج والمرج في كل مكان، فما كان من بيديا إلا أن يعكف على ردع هذا الملك بطريقته الخاصة، وهي أن يؤلف كتابا حاويا وجامعا لفلسفة الحياة والكون، ويتسع لكل مفاصل السلطة في معاملة الرعية، واللافت في الكتاب، إن كل شيء يحصل ويتم فيه على لسان الحيوانات، أي أنه يتبنى فكرة جديدة في تحاشي بطش السلطان وسطوته وجبروته بلغة متنكرة ومقنّعة، مكتنزة وباذخة في تصوراتها، التي لا تخلو من بلاغة المعنى، سواء في موجهاتها كلغة إشارية إيحائية، أو فكرية وفلسفية، وفي كلتا الحالتين لا تخرج من الحكمة وإسداء النصح وتمثل في الوقت ذاته دور الحكيم مع الحاكم في مواجهة أمور البلاد والعباد، وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل المشروع، عن نوع العلاقة التي تحكم بيديا الفيلسوف بدشليم الملك؟ كيف تجلت علاقة الحكمة بالسلطة؟ وما هو دور السياق في الكشف عن هذه العلاقة؟
تقول الباحثة الجزائرية حبّي حكيمة في دراستها عن السياق التداولي، إن التغيير من طبيعة الحكم الاستبدادي قسري دائما، بينما النصوص مرهونة بقوة الإقناع ، وبيديا يسعى بواسطة الحجاج المتمثل بألسنة البهائم أن يخوض بهذا الشكل دون مواربة أو خوف، وأن يضع الحاكم ضمن أطار النص وليس خارجه.
تنتهج النصوص في كليلة ودمنه (المؤنسة) السياق التداولي، بحيث تتضمن فيه كل حكاية، حكاية أخرى وهذا يعني ثمة تلميح يكتنف السياق، ولا يمكن البوح به، حتى ينتقل بدلالته إلى مستوى العلامة المضمرة فيه، وهذه الخاصية بقدر ما تحمل من وجوه عدة للمعنى نرى فيها حركة جمالية مشوقة وجذابة، بحيث تتيح للجميع متعة القراءة ، لكن المتعة التي ليس غايتها التسلية، وإنما البحث عن مغزاها الإنساني والفكري والفلسفي.
هذه الحيلة في وضع الكتاب بهذه الطريقة المتنكرة وغير المألوفة في الكتابة الأدبية، لا بد من أن يقصد الصانع من ورائها تجاوز النزعة الاستبدادية للسلطة، وإظهار نسق الفعل المهين على طبيعة الحياة الاجتماعية والاقتصادية والدينية، أي أنه استجاب حسب مقتضيات عصره بشقيه الزماني والمكاني للتعبير عن حقيقة لم يستطع أحد التجرؤ على الخوض فيها، خوفا من العواقب التي قد تترتب على قائلها، وهنا نكتشف أن النص على مرّ التاريخ يستمد حضوره من رسالته وموقفه إزاء السلطة وحاشيتها وبطانتها وفضح نواياها برؤية ثاقبة.
 
كاتب عراقي