عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    07-Mar-2021

أصدقاء الغياب* رمزي الغزوي

الدستور - 

 
كأن الورودَ تظلُّ مرهونةً حتى لحظات الغياب. كأن نغمات الحبِّ وبلح المديح ولذاذات الثناء تبقى ملجومةً خرساء، لا ينثالُ شلالُها رقراقاً عذباً، إلا بعدما يحولُ الترابُ بيننا. ياااااااه ما أقسانا وأشقانا.
 
كيف كنّا نقبض على كلِّ هذا المشاعر الجيّاشة، دون أن يفوح شذاها؟ كيف لم يشِ بها عطرُها ويفضحها ويشيعها؟ كيف كتمناها عن أحبة كانوا يتمنونها ويترقبونها. لكننا بخلنا بها، وخنقناها بصمت سقيم عقيم. فأيهما أرقُّ وأجملُّ. وردة نضعها في يدي حبيب؟، أم باقة نلقيها على تراب قبره الطازج؟  
 
قبل سنوات طلب صديق لنا أن نقيم له حفل تأبين وهو حيٌّ يرزق. يومها ضحكنا وسخرنا، وحسبنا الأمر عابر نزوة، لكنه أصرَّ. وفي اليوم الموعود لبس بياض القماش، وسكن في كرسيه، لا تتحرك منه إلا عيناه. وراح يسمع منا كلمات وقصائد ومصارحات واعترافات. 
 
سأقول الساعة بصدق، إنني بخلت ببعض المشاعر ولم أبدها عليه. نعم لم أقل كل ما في قلبي في ذلك الحفل. ربما يكون أنني أبقيت أصدق مشاعري للحظة غياب حقيقية. الصديق بعد كلامنا قال ضاحكاً: أعرف أن لديكم كثيراً من الحلاوة، ولكنكم بخلتم بها عليَّ أيها الأبواش. 
 
أول أمس أعلنت أمانة عمان الكبرى عن إطلاق اسم الراحل عقل بلتاجي عمدتها الأسبق على واحد من شوارعها تكريما له. وقد شهدنا عبر مواقع التوصل سيلاً من المديح والثناء على مسيرته من قبل أصدقاء ومعارف له لم نسمع منهم شيئا والرجل بيننا. لماذا سكتوا حتى غاب في الأبدية لتنفتح قرائحهم. 
 
نحن أشحّة في مشاعرنا الإيجابية. نحن بخلاء في هذا تحديدا، لكننا نجود بسخاء بمشاعر السلبية والذم والكراهية. ولو لم نكن كذلك، لما كتمنا مشاعرنا تجاه أحبتنا وهم بيننا. لماذا نؤخر ونؤجل كل جميل حتى لحظات التراب والغياب؟. 
 
لا أعرف لماذا اختار المثل الشعبي (الأقدام)، ليقول أنها تطول، بعدما يموت الواحد منا. لربما أن الآخرين يهيلون علينا كثبان المديح بعد هيلات التراب، ويقولون إن أقدامنا القصيرة، في مدارج الحياة كانت طويلة. ربما يقولون هذا بسخاء؛ لأننا لم نعد ننافسهم في خطواتهم نحو الحياة ومباهجها، أو مكافأة لنا على غيابنا. 
 
ما زال في بالي بيت عتابا رندحه جدي بحزن على أسماعي ذات طفولة: (حبيبي حبيبي اللي ما نفعني وأنا حي، ما أريده عند هيلات الترايب). ودائماً سنعرف، أن ثمة من يمشون في الجنازات؛ ليتأكدوا أن الميت قد مات حقا؛ كي يغدو حبيبا طيبا.