الغد
في الثالث من سبتمبر 2025، توجهت أنظار العالم إلى (بكين)، وتحول ميدان (تيان آن مين) إلى مسرح دولي مفتوح على التاريخ والمستقبل.
لم يكن العرض العسكري الصيني مجرد استعراض قوة في ذكرى انتصار المقاومة الصينية على اليابان في الحرب العالمية الثانية، إنما كان رسالة استراتيجية تقول إن (آسيا) لم تعد هامشا، وإن مركزا جديدا يتشكل ليعيد صياغة المعادلات، ويرسم خرائط النفوذ.
ألقى الرئيس (شي جين بينج) خطابا وصفته وسائل الإعلام بـ«مانيفستو القرن الآسيوي»، أعلن فيه أن مسيرة (الصين) غير قابلة للإيقاف، وأن العالم يقف عند مفترق طرق بين السلام والحرب، بين التعاون والمواجهة، بين الحوار والصدام. وقال نصا: «الشعب الصيني يقف على الجانب الصحيح من التاريخ». عبارة قصيرة، لكنها حملت يقينا عميقا وثقة غير مسبوقة بقدرة (بكين) على قيادة مرحلة جديدة.
جلس إلى جوار الرئيس الصيني الرئيس (فلاديمير بوتين) وزعيم (كوريا الشمالية) (كيم جونج أون)، ثلاثي نووي آسيوي في مشهد واحد، يرسم صورة رمزية عن تحولات كبرى، وانزياح مركز الثقل الدولي شرقا.
كشف الاستعراض عن أسلحة غير تقليدية: صواريخ فرط صوتية تتجاوز أنظمة الدفاع الأميركية، غواصات مسيرة تتخفى عن الرادارات، منظومات قائمة على الذكاء الاصطناعي تتخذ القرار في أجزاء من الثانية، قدرات هجومية بحرية وجوية تصل إلى الأساطيل الأميركية في المحيطين (الهادئ) و(الأطلسي)، ولأول مرة أظهرت (الصين) أن ردعها قد يمتد إلى قلب (أوروبا).
إذن، لم يعد الأمر تنافسًا اقتصاديا أو تكنولوجيا فحسب، إنما أصبح إعلانًا صريحًا عن استعداد لمنافسة (الغرب) عسكريا أيضا.
جاء العرض متزامنا مع قمة (منظمة شنغهاي للتعاون) التي جمعت عشرين دولة، فلم يعد المشهد تحالفا ظرفيا، إنما بنية إقليمية شاملة، تسعى لبناء نظام متعدد الأبعاد، فالتعددية القطبية باتت واقعا يتجاوز الثنائية القديمة بين (واشنطن) و(موسكو).
في القاعة ارتفع صوت الحاضرين مطالبا بوقف الإبادة في (غزة)، فحضر المشهد العربي من زاوية إنسانية وسياسية معا، وهو ما تضمنه البيان الختامي لقمة (شنغهاي).
في المقابل فجر (دونالد ترامب) جدلا حين قال إن (إسرائيل) بدأت تخسر نفوذها داخل (الولايات المتحدة)، وهو تصريح يعكس تصدعا في علاقة استمرت عقودا، وفي الوقت نفسه كانت (روسيا) تشن أعنف هجماتها في (أوكرانيا) منذ عام 2022.
بدا وكأن المشهد مترابطا: (موسكو) تضغط في الغرب، و(بكين) تعرض قوتها في الشرق، و(واشنطن) تواجه تحديا مزدوجا ينهك قدراتها، ويقيد حركتها.
وهنا تقف المنطقة العربية أمام لحظة حاسمة، والأقرب أن تتحول إلى ساحة تنافس، ما لم تبحث عن موقع مستقل، فلم يعد العالم ثنائيا بين (واشنطن) و(موسكو)، إنما بين (غرب) مترنح و(شرق) صاعد، والخيار الإستراتيجي للعرب واضح: التحرر من الارتهان وخلق هامش مناورة، والانفتاح على مبادرة (الحزام والطريق)، مع الحفاظ على شراكات متوازنة مع (أوروبا) و(الولايات المتحدة)، كما أن تقوية العمق الإقليمي أصبحت ضرورة حتى لا تتحول المنطقة إلى ورقة في يد الآخرين.
الرسالة القادمة من (تيان آن مين) هي إعلان عن زمن جديد، يولد من قلب (آسيا)، زمن تتحرك فيه التكنولوجيا والاقتصاد والتحالفات عبر القارات، زمن يفرض على كل دولة أن تعيد تعريف موقعها، ومن يتأخر عن اللحاق بالتحول سيجد نفسه خارج مسرح التاريخ، يتفرج من الهامش، فيما الآخرون يصوغون ملامح العالم المقبل.