عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    01-Nov-2025

"كل مناسبة بفاتورة".. حينما تتحول العلاقات لعبء اقتصادي

 الغد-ديمة محبوبة

 التحديات الاقتصادية، وتحديدا بعد وباء كورونا، لم تعد تنحصر في الأرقام والمؤشرات والأسواق، بل تسللت إلى أعمق زوايا الحياة اليومية، لتصل إلى أدق تفاصيل العلاقات الاجتماعية والعائلية.
 
 
فاليوم، يجد المواطن نفسه خارج الكثير من الدوائر والمناسبات الاجتماعية، بسبب الضغوط الاقتصادية التي تؤثر عليه.
ورغم أن الكثيرين يعيشون اليوم صراعا خفيا بين الرغبة في الحفاظ على الروابط الاجتماعية كما تمليها العادات، وبين مواجهة واقع اقتصادي متقلب يجعل الالتزامات الاجتماعية عبئا لا يطاق أحيانا، إلا أن في كل بيت قصة، وفي كل مناسبة حكاية جديدة عن أشخاص يبتسمون أمام الناس، بينما يخفون خلف تلك الابتسامات هما ماليا يتراكم عاما بعد آخر.
تبين مريم حسنات أنها باتت تشعر بأن كل مناسبة اجتماعية تعني "فاتورة جديدة"، أكثر مما تعني لقاء إنسانيا. فعندما تسمع أن أحد الأقارب سيتزوج أو يرزق بطفل أو يدعو لمناسبة، تجد نفسها مضطرة لشراء هدية، وتجهيز ملابس، وتخصيص ميزانية، حتى لو كانت بالكاد تستطيع تغطية مصاريف الشهر.
وتشير إلى أنها تشعر بتخبط حقيقي بين ما تمليه العادات والتقاليد وما تميل له هي فعلا، وبين وضعها الاقتصادي الذي يذبل عاما بعد آخر، حسب وصفها. وتؤكد أن شعورا آخر يرهقها، وهو خوفها من أن تتهم بالتقصير أو بالبخل، ما يجعلها تعمل على تقليص دائرة معارفها والتهرب من مناسبات كثيرة، حتى لو كان ذلك عكس إرادتها.
مشاعر مريم تتكرر على ألسنة كثيرين، فالعلاقات التي كان يفترض أن تكون سندا في زمن الضيق، باتت في أحيان كثيرة مصدر ضغط نفسي ومالي، خصوصا في المجتمعات التي تولي المظاهر الاجتماعية أهمية مفرطة؛ حيث يقاس الكرم بحجم الإنفاق لا بصدق النية، وفي ظل هذا الواقع، يجد الأفراد أنفسهم في معركة صامتة "كيف يحافظون على صورتهم الاجتماعية من دون أن ينهار توازنهم الاقتصادي؟".
ضغط الصورة المثالية
اختصاصي علم الاجتماع الدكتور حسين خزاعي، يرى أن جذور المشكلة تكمن في التحول الذي أصاب مفهوم "التواصل الاجتماعي"، فيقول "كنا نرى المناسبات وسيلة لتقوية الروابط الإنسانية، لكنها أصبحت ساحة للمقارنة والمباهاة، وكثير من الناس يشعرون أن عليهم إثبات مكانتهم عبر ما يقدمونه، لا عبر مشاعرهم الصادقة". ويضيف أن وسائل التواصل الاجتماعي عمقت هذا التوجه، إذ أصبح البعض يعيش تحت ضغط الصورة المثالية التي يراها في هواتفه يوميا، فيقارن نفسه بآخرين من دون أن يعرف حقيقة ظروفهم، وهوس الناس بهذه الصورة حتى لو كانت على حساب الوضع الاقتصادي.
من جانبه، يوضح الخبير الاقتصادي حسام عايش أن تداخل العوامل الاقتصادية مع البنية الاجتماعية التقليدية خلق بيئة معقدة يصعب إدارتها بسهولة. فيقول عايش "العلاقات الاجتماعية في مجتمعاتنا مبنية على التضامن والمشاركة، لكن هذا التضامن يحتاج إلى تحديث يتناسب مع الواقع الاقتصادي الجديد".
إعادة تعريف مفهوم المشاركة
ويؤكد عايش أن الكثير من العائلات لم تعد من الممكن أن تعيش بالعادات ذاتها في زمن تتراجع فيه الدخول وتتزايد فيه الأعباء. ويرى أن الحل لا يكمن في الانسحاب من الحياة الاجتماعية، بل في إعادة تعريف مفهوم المشاركة الاجتماعية بما يتلاءم مع الإمكانات الفعلية للأفراد.
ويضيف "يجب فهم أن القيمة المعنوية للمشاركة أهم من شكلها المادي وأن الشخص الذي يشارك بمشاعره ووقته لا يقل أهمية عن الذي يشارك بهدية ثمينة".
ويشير عايش إلى أن الضغوط الاجتماعية تؤثر أيضا في الاقتصاد نفسه، فالكثير من الأفراد يضطرون إلى الاستدانة أو استخدام مدخراتهم الصغيرة لتلبية متطلبات مناسبات متكررة، مما يضعف قدرتهم على الادخار أو الاستثمار في احتياجات أساسية.
ويلفت عايش إلى أنه يتحدث عن ظاهرة لها بعد اقتصادي واضح، لأن السلوك الاجتماعي غير المنضبط ينتج أنماط إنفاق غير عقلانية تؤثر في الاستقرار المالي للأسر.
ضغط نفسي غير مرئي
ومن ناحية نفسية، تؤكد المرشدة النفسية والتربوية رائدة الكيلاني أن المشكلة لا تكمن فقط في الضغوط المالية، بل في الشعور المستمر بالذنب من الحكم الاجتماعي.
وتقول "الناس تربوا على أن الكرم والاهتمام واجبان لا يجوز التقصير فيهما، لكن قلة من يدرك أن لكل إنسان ظروفه، فالبعض ينهك نفسه فقط كي لا يقال إنه مقصر، وهذا نوع من الضغط النفسي غير المرئي".
وتتفق مع خزاعي على أن الصراع بين الواجب الاجتماعي والقدرة الاقتصادية ليس ظاهرة فردية، بل انعكاس لتحولات أوسع في المجتمعات العربية التي تعيش مرحلة انتقالية بين قيم تقليدية راسخة ومتطلبات اقتصادية متغيرة، وأن العادات الجميلة التي كانت رمزا للتماسك، قد تتحول أحيانا إلى عبء إذا فقدت معناها الأصلي، ومع ذلك تبقى الحاجة إلى التواصل الإنساني حقيقية وأساسية، لكنها تحتاج إلى إدارة أكثر وعيا وواقعية.
وعن الحلول الممكنة، يتحدث عايش بأنه من الواجب إعادة بناء مفهوم "الكرم الاجتماعي" على أسس من الاعتدال والتفهم، وليس التنافس والمظاهر.
فبدلا من الهدايا المكلفة، يمكن أن يكون الحضور المعنوي والمساندة الوجدانية كافيين. كما أن تقنين المناسبات، وتخفيف التكاليف، وإطلاق مبادرات مجتمعية تشجع على البساطة، تعد خطوات تعيد التوازن بين القيم الإنسانية والقدرات الاقتصادية.
ويؤكد أن العلاقات الاجتماعية ليست عبئا بطبيعتها، بل تتحول إلى عبء حين نحملها أكثر مما تحتمل. وبين واجب المجاملة وحق الراحة النفسية، يقف الإنسان اليوم في مفترق طرق يختبر فيه صدق القيم التي تربى عليها. 
وفي النهاية، يتفق المختصون على أن الغاية من العلاقات ليست أن تنهك الشخص، بل أن تعينه على الحياة، وأن تذكره دائما بأنه يحتاج من حوله وليس ما يقدمونه ماديا له.