الدستور
في الزمن الهارب من أصحابه، تُحلّق الأفكار والأحلام في فضاءاتها، لتعود ثانية للاصطدام بواقع تسربت خيوطه، منذ أزمان، كالرمال من بين الأصابع. وهو زمن يعيش فيه الغالب والمغلوب حياة يشتبك فيها الماضي والمستقبل، بحيث يستعصي على كليهما امتلاك الحاضر. فالغالب لا يكتفي بمصادرة تاريخ المغلوب والحديث باسمه وعنه، بل يذهب إلى ما وراء التاريخ. أما المغلوب، فلا يجد سوى اللجوء إلى ما قبل التاريخ، دفاعاً عن نفسه وذاته. فعلى الرغم من أن حجم المؤلفات الغربية، التي تبحث في المشرق العربي، تجاوزت ستين ألف مؤلف، خلال مئة وخمسين عاماً، منذ مطلع القرن التاسع عشر، إلا أن صفة «الاستبداد» ظلت ملصقة بالمشرق، في الخطاب الاستشراقي، كصفة تترافق بالصفة العربية الإسلامية.
وتسهيلا لفهم المشرق العربي وإدراكه، انطلقت عبارة المستشرق «رينان» الشهيرة: «الخيمة والقبيلة» كالسحر، لتفسير الطبيعة العضوية للاستبداد في الشرق الأوسط. وفي سياق تلك العبارة «الخيمة والقبيلة»، لا يؤخذ العرب إلا جماعات، لا فرادة فيهم ولا تميّز ولا استثناء. وعليه، فلا وجود في الخطاب الاستشراقي الغربي لمشرق معاصر. بل خطف لذاكرته كمغلوب، أو على أحسن تقدير طمس لمعالمها وملامحها المفيدة. وهو خطف وطمس متعمد ومنظم، يبقى فيه المغلوب دوما على حافة الهاوية، أي على حدود التنازل والتخلي عن أقرب حواضره. وعلى هذه الحافة، يظل العرب في هذا الخطاب كما هم: لا إبداع ذاتياً عندهم، ولا تحولات ولا تغيير ولا تجارب. وهي مصادرة للذاكرة بغرض إدراج العرب ضمن وحدانية الغرب قي الحضارة المستقبلية. وحدانية لا وجود فيها لمن يحتج على الهيمنة، بسبب فقدان الذاكرة وطمسها. لهذا، فإن المشرق العربي دائم الاعتصام بماضيه، الذي يملك شيئاً من الجبروت والممانعة، وهو دائم الحنين والمناجاة له. وفي الزمن الهارب إياه، فإن المغلوب بطبيعة حاله لا يعيش في حاضره، فهو دائم التطلع إلى منفاه التاريخي. أما الغالب، فيتطلع إلى اللحظة التي يتبدد فيها المغلوب ويتلاشى إلى حيث اللا زمن. تلك هي أحلام الغالبين والمغلوبين المحلقة في الزمن الهارب من أصحابه. إلا أن الغالب فيه يصطدم ويفاجأ بعنف انتفاضة المغلوب، وأحياناً بشراسته. أما المغلوب، فيبقى مستغرباً مدهوشاً من تكرار اخفاقاته..!
في مطلع التسعينيات، خاطب مستشار غورباتشوف الأميركيين قائلا: «إننا نسدي إليكم شيئا رهيبا. إننا نحرركم من الأعداء». وقد تكررت تلك العبارة، على نحو مختلف، في رواية مغاربية حيث يقول الراوي حزيناً: «بعد أن حُرمنا من الأعداء، أصبحنا على أشد الاستعداد لتوجيه أفواه بنادقنا ضد بعضنا». وقد تنبه إلى دلالة تلك العبارات وخطورتها عدد كبير من المفكرين، والخبراء الأميركيين، فالفراغ الذي أحدثه الانتصار الأميركي في الحرب الباردة نظر إليه هؤلاء المفكرون على أنه لعنة، قد تُودِي وتعصف بإنجازات تاريخية وانسانية كاملة. فالتفتت ونشوء العصبيات من جديد هما، وحدهما، ما يبدو أنه يتحضر لملء هذا الفراغ.
إن تبلور الهوية هو حاجة إنسانية قديمة ومتشعبة، وهي لا تتكشف إلا بالاحتكاك مع الآخر. وفي رأي أحد المفكرين العرب، الذين يعيشون في الغرب، فإن «أزمة الهوية لا تظهر إلا في المجتمعات التي تدخل ديناميكية الحداثة». غير أن المفارق فيها هنا، هو أنها حداثة تتحدد على أنها علاقة بين غالب ومغلوب، يكون فيها الغالب هو القادر والمبادر لطرحها، جاعلاً من وظيفة الهوية عند المغلوب أزمة تدوم بدوام غلبته..! وكأنّ الصراع على امتلاك المشرق وتاريخه يعود هذه المرة بسلاح بدائي، مطلّا على العالم عبر نوافذ: العرق، والمذهب، والطائفة والهوية..!