الدستور
انتقل بنيامين نتنياهو تحت وطأة ثقل الواقع، للعيش في أحضان الخيال، وواقع إسرائيل اليوم صعب ومهشم، اقتصادياً، وسياسياً، وحتى عسكرياًَ، ولجأ النرجسي الحالم إلى الأسطورة؛ أسطورة إسبارطة العظمى التي اعتمدت الحرب كوسيلة للكسب والردع، فتحولت تلك «المدينة - الدولة» إلى مجتمع عسكري يصدّر كتائب مسلحة إلى الأراضي التي يحتلها في المدن اليونانية، وكانت النساء - إسرائيل اليوم - يخدمن في الجيش، ويشاركن في القتال، وبهذا المعنى فإن نتنياهو يود أن يحوّل اقتصاد إسرائيل بالكامل إلى اقتصاد حرب وسط مخاطر عزلة اقتصادية دولية تشتد على الكيان المحتل يوماً بعد آخر.
خاضت إسبارطة حروباً طويلة مع جيرانها، وبخاصة أثينا التي خاضت ضدها حرباً استمرت ربع قرن، فنتنياهو إذاً يريد أن يصبغ بالكامل الطابع العسكري على الكيان الإسرائيلي، وهو طابع متشدد يعتمد اقتصاده على الاكتفاء الذاتي، والانتاج المحلي في مواجهة العزل الاقتصادي المتوقع الذي يحذر منه نتنياهو شعبه، وهو بذلك يرعبهم، ويخيفهم من أجل أن يلتفوا حول «القائد المنقذ» الذي يعيد إنتاج نفسه على شكل آلهة قديمة.
لا أحد يعرف ما الشخصية التي سيتقمصها نتنياهو في أسطورة إسبارطة، هل سيكون المؤسس «لاكديمون»، أم سينحت اسماً جديداً يتسق مع الآيدولوجيا التوراتية، ربما يسمي نفسه»الإله جدعون»، وكما خرجت أثينا من رأس أبيها زيوس، قد يخرج نتنياهو من قفا كلب مسعور، هبطت مؤشرات بورصة تل أبيب، جن جنون الإسرائيليين، ومن ستقابل «إسبارطة» ابنة زوجة «لاكديمون؛ هل ستكون سارة نتنياهو تلك الآلهة الجديدة في مجتمع يقتات على الدم من أجل بناء اقتصاد محلي في مواجهة العزلة.
أكثر تعليق راق لي على تصريحات هذا المراهق المجنون ما قاله الصحفي «بن كاسبيت» في صحيفة «معاريف»: الأسطورة البطولية، لا تغير حقيقة أن إسبارطة اندثرت. انتهى الاقتباس. أفقول إن الضم والإخضاع لم يكفلا لإسبارطة البقاء طويلاً، وأسطورة البقاء في إسرائيل لن تكون إلا كما يريد نتنياهو من حيث أنها أسطورة ستأخذ طريقها إلى الزوال.
وفي مقابل تصريحات نتنياهو، وتجواله بصحبة وزير خارجية ترمب تحت نفق في قلب القدس القديمة، كنت أستمع بالأمس إلى شريط مصور على «تيك توك» نشره خليلي مقدسي يعمل أستاذاً للتاريخ والآثار في جامعة بير زيت، وعمل بشكل خاص أستاذاً في تاريخ القدس، وهو يقول إن أكبر ضربة تلقتها إسرائيل منذ السابع من أكتوبر استهدفت السردية الإسرائيلية؛ كشفت كذبها، كما كشفت الحقيقة، والحقيقة أكثر ما تمقته إسرائيل، وفي هذا ما يبرره، لأنها كيان أقيم على الكذب، ثم الكذب، واستمرت إسرائيل في ممارسة الكذب على شعوب الأرض إلى أن كشفت غزة عورة هذا الكيان، وكشفت معه الحقيقة التي تكرهها إسرائيل، وذلك ما يبرر اللجوء إلى الأساطير.
يقول البروفيسور نظام الجعبة إن الشعب الفلسطيني بعد عام 1948 ظن أنه سينقرض، ولم يلتفت إلى بناء سرديته التي تحكي الحقيقة إلا بعد ثلاثين عاماً من التهجير، وإن إسرائيل عندما احتلت القدس عام 1967، كانت مساحة المدينة نحو ستة كيلومترات ونصف مربع، وأن نسبة الفلسطينيين في القدس آنذاك كانت تمثل نحو 15% من السكان، وتحولت هذه النسبة إلى 40% بعد أن وسع الاحتلال حدود القدس في الجهتين الغربية والشرقية لتصبح المساحة 105 كيلومترات مربعة، ويتساءل الأستاذ الجامعي الفلسطيني: كيف يمكن أن تكون القدس عاصمة لكيان يسكنه 400 ألف نسمة «من أعداء» يمثلون 40% من سكان المدينة، وفي حديثه عن الديموغرافيا يؤكد أن الفلسطيني رغم الهجرات الصهيونية المتتالية منذ عام 1948، إلا أنه استطاع أن ينتصر لوجوده، فيصبح عدد أهل فلسطين أكثر من عدد الكلاب المسعورة من المستوطنين.
مختصر القول: نتنياهو مأزوم، وتصريحاته تؤكد فقدانه للاتزان، والتوازن، وعلى الرغم من كل ما حدث للفلسطيني من موت ودمار، إلا أنه لم يفقد التوازن، ولجأ إلى الحقيقة، لم يهرب منها، بل هرب إليها، وذلك هو الفارق بين السارق والمسروق.