الغد- عزيزة علي
في كتاب "من فلسطين إلى الفلسطينزم – قول في الوعي والمعنى"، للكاتب والمترجم والروائي الفلسطيني إياد البرغوثي. تبرز قضية فلسطين كواحدة من أعقد وأعمق القضايا الإنسانية المعاصرة.
يأخذنا المؤلف إياد البرغوثي في كتابه الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، في رحلة فكرية تأملية تكشف تطور الوعي الفلسطيني من مجرد قضية وطنية ضحاياها شعبٌ مسلوب الحقوق، إلى أفق أوسع يحمل الإنسان وكرامته في قلب المعركة التحررية. عبر هذه الصفحات، يسلط البرغوثي الضوء على الصهيونية كمنظومة فكرية وسياسية.
كما يكشف الكتاب عن التحديات التي واجهها الفكر الاشتراكي والرأسمالي في مواجهة هذا الواقع، مقدماً رؤية نقدية تجمع بين التحليل السياسي والبعد الأخلاقي، في محاولة لاستشراف مستقبل لا يرضى بقهر الإنسان ولا بهوانه.
البرغوثي أهدى كتابه "إلى الأرواح التي حملت فلسطين إلى العالمية، وحملتها فلسطين إلى القداسة".
يقول المؤلف في مقدمة كتابه إن قضية فلسطين، منذ نشأتها عام 1948، لم تحظَ بأي شكل من أشكال الاهتمام في النظام الدولي. لا في الثنائي القطبة بعد الحرب العالمية الثانية، ولا في النظام الأحادي الذي أعقب انهيار الاتحاد السوفييتي، ولا حتى في النظام المتعدد الذي بدأ يتشكل مع مجيء ترامب، على الأقل كما بدا من ملامحه الأولى.
ويضيف البرغوثي أن فلسطين، منذ بدايات قضيتها، مرّت بمراحل متعددة، وحملت أبعادًا متداخلة، وذلك يعود ليس فقط إلى اختلاف مستويات النضال الفلسطيني وتعدد أشكاله، لكن أساسا إلى لطبيعة "المشروع"، الذي استهدفها، والقوى التي شاركت في ذلك المشروع.
ويرى البرغوثي أنه كان من الطبيعي أن يتعامل الفلسطينيون مع استهداف فلسطين كقضية وطنية، إذ كان المستهدف في تلك المرحلة على الأقل هو فلسطين الوطن، وهي قضية عربية قومية لأولئك المؤمنون بالعروبة، وبأن فلسطين جزء من الوطن العربي. كما رآها تيار الإسلام السياسي وكثير من المسلمين.
ويضيف المؤلف إن قضية فلسطين هي قضية إسلامية، نظرًا للمكانة الدينية لفلسطين.
أما البعد العالمي للقضية الفلسطينية، فقد ظهر باعتبارها جزءًا من حركة التحرر الوطني في العالم، مع انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة عام 1965. وشهدت القضية تضامنًا واسعًا من حركات التحرر العالمية، ومن الأحزاب والتيارات اليسارية في العالم، ومن البلدان الاشتراكية في فترات معينة، كجزء من النضال ضد الإمبريالية العالمية.
ومع ذلك، حتى طوفان الأقصى، لم تأخذ القضية ذلك البعد الفكري والإنساني الذي يتجاوز كونها مجرد قضية حق "مدني"، لمجموعة من الناس تتضامن معها "مجموعات"، أخرى.
ويرى المؤلف أن هذا يرجع في الأساس لتقصير في الأداء الفلسطيني، بل لقصور شامل في فهم الجوهر الحقيقي للصهيونية، خاصة في أبعادها الفكرية. فالصهيونية نجحت في تقديم نفسها كحركة "تحرر للشعب"، اليهودي، وحلًا "لمظلوميته"، التاريخية التي "تتوّجت"، بالهولوكوست، بينما هي في واقع الأمر توأم البروتستانتية، حيث شكلتا معًا المنظومة الأخلاقية للنظام الرأسمالي منذ أواخر العصور الوسطى.
ويشير البرغوثي إلى أن من ينظر إلى الصهيونية نظرة أعمق من كونها مجرّد محاولة لإنشاء "دولة لليهود"، سيجدها فكرًا "عالميا"، وأساسًا لتشكيل بنية اجتماعية–اقتصادية تقوم على العلاقة بالمال (الربا)، ونظاما دوليا للهيمنة، وشكلا من الاستعمار ليس تقليديًا يقتصر على "النهب"، والهيمنة، بل على التدمير والإرهاب، والتوحش، والإبادة، والتطهير العرقي. ولذلك تعتبر "أعلى مراحل الإمبريالية الحديثة.
ثم يتحدث المؤلف عن الرواية الصهيونية يقول إنها "قائمة أساسًا على العنصرية"، بل على نوع خاص منها، وهي "العنصرية المقدّسة".
يدعو البرغوثي إلى عدم التعامل مع الرواية الصهيونية كما يُتعامل مع أي رواية أخرى، فالدولة القائمة على الصهيونية "إسرائيل"، ليست كغيرها من الدول، والجرائم التي ترتكبها ليست كغيرها من الجرائم. وما هو مسموح لها، ليس هو المسموح لغيرها. في ميزان الصواب والخطأ، لا يُسمح لغيرها به، إنها لا تقوم بما هو "الصحيح"، بمقاييس الأخلاق والقانون، إنما الصحيح هو ما تقوم به.
ويرى المؤلف أن الصهيونية قد امتلكت، على مدى ما يقارب القرن، قدرة هائلة على التزييف، والادعاء، و"التمثيل"، وتشويه صورة كل من يعارضها. بل وتمكنت من جعل الولاء لها جزءًا من القوانين والأعراف الدولية، ونجحت طيلة قرن من الزمان، ليس فقط إلى فرضها نفسها كفكر "إنساني"، بل كـ"أرقى"، أشكال هذا الفكر – إن لم تكن الفكر "الإنساني"، الوحيد المسموح به.
ثم ينتقل المؤلف للحديث عن "طوفان الأقصى"، ويقول: "بعد طوفان الأقصى، ارتقت قضية فلسطين إلى مستوى أعلى، فأضافت إلى أبعادها الوطنيّة والقوميّة والدينيّة والإستراتيجي، قوىً جديدة، بعدا فكريا وتحرريا إنسانيا مؤهلا أخلاقيا للتصدي للصهيونية، كفكر إمبريالي عنصري إبادي خطير على السلم العالمي، وكارثي للبشرية بمن فيهم اليهود أنفسهم.
ولقد بلغَت فلسطينُ اليومُ أفقًا راقيًا، صار بهول تضحياتها، وبصدق مظلوميتها، وبارتقائها لتكون قضية حرية الإنيان أينما كان، ورمزا لرفض الظلم بكل أشكاله، وراية للوقوف مع الحق في أيِّ مكان، وأيقونةً لأولئك الساعين إلى العدل بلا هوادة. إنّ هذا الارتقاء في الوعي هو ما أطلقنا عليه صيغة "الفلسطينزم".
ويرى البرغوثي أن المصطلح " الفلسطينزم"، يمثّل في جوهره - قفزةً نوعية في الوعي الجماعي للفلسطينيين: حيث تحوّلت الذات الوطنية الفلسطينية من نقيضٍ للصهيونية باعتبارها مشروع إقامة دولة يهودية في فلسطين (كما بيّن إدوارد سعيد رحمه الله) إلى نقيضٍ متجذر في إدراك أن الصهيونية مشروع هيمنة على الإنسان في كل مكان.
يوضح المؤلف أن الكتاب يسعى إلى توضيح هذا المصطلح ليكون حجرهُ الأساس وشرارة انطلاقه، ودعوة للبناء عليه، ليكون على قدر المهمة الإنسانية النبيلة والعظيمة التي يمثلها.
ويقول إنّ الفلسطينزم، وفق رؤيتنا وأساسنا الفكري والأخلاقي، لمشروع التصدي للصهيونية المهيمنة على العالم، إستراتيجيا وسياسيا واقتصاديا وفكريا. وهي النظر الأشمل للتخصر من العنصرية "الخبيثة"، باعتبارها منهجا وضرورة "لتفكيك" الصهيونية.
وهي المرتكز القيمي لنظام عالمي مختلف ينبغي أن يأتي، ذلك الذي يتم فيه تحرير العقول المستعبدة والمستلبة من أوهام فرضتها الصهيونية كحقائق، وتحرير الشعوب من قوى قدمتها الصهيونية كمنقذ، ويتم فيه إعادة الإنسان إلى انسانيته.
ويخلص المؤلف إلى أن كتابه يناقش تطور الوعي بفلسطين من قضية الفلسطيني، الذي اغتصبت حقوقه سلباً، إلى قضية الإنسان، الذي شُلّب حريته؛ ومن حركة مقاومة لاستعادة حقوق شعب، إلى منظومة فكرية للتحرير الإنساني الشامل.