دخان غزة يحجب نيران الضفة.. جعل المشروع الاستعماري دائما
الغد
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
تحليل – (ذا كريدل) 9/12/2025
بينما تظل العيون الدولية مركّزة على غزة، تنفّذ تل أبيب أشرس حملات التطهير العرقي وسرقة الأراضي في الضفة الغربية المحتلة منذ العام 1948.
في صباح 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، بينما كان العالم يستعد لتداعيات عملية "طوفان الأقصى"، فُتحت جبهة حرب أخرى بهدوء. ولم تكن المعركة تُشن بالغارات الجوية أو المدفعية، وإنما بالجرافات، والقوانين، وميليشيات المستوطنين.
بينما كانت القنابل تسحق غزة، اشتعلت الضفة الغربية المحتلة بنار مختلفة: نار الطرد المنهجي، والانتزاع العنيف، والضم القانوني.
تقدّم الدولة الاستيطانية
لا تتصدر هذه الحرب عناوين الأخبار ولا هي مركز اهتمام في وسائل التواصل الاجتماعي –إلا لمن يتابع التطورات. لكن نتائجها قد تكون أكثر ديمومة. تحت غطاء دمار غزة، سرّعت إسرائيل حملة مخططًا لها منذ زمن لتقطيع أوصال الضفة الغربية المحتلة قسرًا، وتدمير الحياة الزراعية الفلسطينية، ومحو أي احتمال لقيام دولة فلسطينية ذات سيادة.
أدواتها وحشية وبيروقراطية في آن، وتشمل هجمات المستوطنين المسلحين، وسرقة المياه، والمراسيم الأثرية، والخنق الاقتصادي، وتحويل ما تبقى من السلطة الفلسطينية إلى جسد سياسي مُفرَّغ.
تحوّل عنف المستوطنين إلى عقيدة دولة
في هذه الحرب لم تعد هجمات المستوطنين على الفلسطينيين عشوائية أو متمرّدة. في السابق كانت تُنسب إلى جماعات هامشية مثل "شباب التلال"، لكن عنف المستوطنين تحول منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر)، إلى امتداد شبه رسمي شبه عسكري للدولة الإسرائيلية. أصبحت عصابات المستوطنين المسلحة تعمل بتنسيق كامل مع جيش الاحتلال، وتتصرف كذراع تنفيذية لسياسة التهجير القسري.
في المناطق "ب" و"ج" من الضفة الغربية المحتلة، يتعرض المزارعون والقرى لهجمات هذه الميليشيات التي تقتحم المنازل، وتدمّر الألواح الشمسية، وتسمّم خزانات المياه، وتحرق المحاصيل – ليس لمجرد التخويف، وإنما لإصابة الناس وقتلهم ودفعهم إلى مغادرة أراضيهم. وتعكس هذه الهجمات تحوّلًا استراتيجيًا. فبحسب "مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية" (OCHA)، سُجِّل أكثر من 260 اعتداءً من المستوطنين في شهر تشرين الأول (أكتوبر) وحده –وهو أعلى رقم منذ العام 2006. وكانت هذه الاعتداءات، التي يبلغ متوسطها ثمانية يوميًا، منهجية، وهي تستهدف بشكل غير متناسب المزارعين خلال موسم الحصاد ومجتمعات الرعاة في المناطق النائية.
لكن السلاح الحقيقي الذي تملكه هذه الميليشيات هو الإفلات من العقاب. أصبح المستوطنون الآن يتصرفون بثقة كاملة بأن الدولة ستحميهم ولن تحاسبهم. وفي إحدى الحالات، أحرق مستوطنون مسجدًا في "دير إستيا" وكتبوا على جدرانه رسالة متحدية: "نحن لا نخاف من آفي بلوت"، في إشارة إلى قائد قيادة المنطقة الوسطى في الجيش الإسرائيلي. وبفضل وزراء متطرفين مثل بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، يشعر هؤلاء المستوطنون العنيفون –ويعملون– بوصفهم أصحاب السيادة الحقيقيين على الأرض. وتفيد منظمة "يش دين" الحقوقية الإسرائيلية بأن 94 بالمئة من قضايا عنف المستوطنين انتهت من دون لوائح اتهام -حتى قبل الحرب. ومنذ بدايتها، اختفى حتى مظهر الالتزام بالإجراءات القانونية.
تجريم شجرة الزيتون
في الضفة الغربية المحتلة، تمتد حرب إسرائيل لتطال الجذور نفسها –حرفيًا. هناك، أصبحت شجرة الزيتون، شريان الحياة للمجتمع الريفي الفلسطيني واقتصاده، هدفًا مباشرًا. واستخدمت تل أبيب السيطرة على الموارد والقوانين البيئية كسلاح لتفكيك الزراعة الفلسطينية واقتلاع الناس من أرضهم.
وبحسب "منظمة العفو الدولية"، يخضع المزارعون الفلسطينيون لنظام هيمنة يفرض قيودًا شديدة على الوصول إلى الموارد الحيوية. وتسيطر إسرائيل على 85 بالمئة من مياه الضفة الغربية المحتلة، وتحظر حفر الآبار، مما يجبر الكثيرين على الاعتماد على الزراعة التقليدية المعتمدة على مياه الأمطار –وهي ممارسة أصبحت بعيدة عن الاستقرار بسبب تغير المناخ وسرقة المياه الجوفية لصالح المستوطنات المزدهرة القريبة.
وتُشن هذه الحرب على الزراعة أيضًا عبر قوانين كافكاوية. فقد جرّمت إسرائيل حصاد النباتات الفلسطينية الأصلية مثل الزعتر، والعكوب، والميرمية تحت ذريعة "حماية الطبيعة". وبينما تقوم الجرافات بتجريف آلاف الدونمات من النباتات البرية لتوسيع المستوطنات، يتم تغريم الفلسطينيين وسجنهم لمجرد جمع العكوب لوجبة عائلية. ويقول خبراء أن ذلك جزء من حملة أوسع لفصل الفلسطينيين عن أرضهم، وصولًا إلى التحكم في ما يأكلونه وكيف يعيشون.
وفي الوقت نفسه، يشن المستوطنون اعتداءات مباشرة على المحاصيل، ويمنعون وصول المزارعين الفلسطينيين إلى مئات الهكتارات من بساتين الزيتون، ويعملون على شلّ الاقتصاد المحلي. وعندما يقاوم الفلسطينيون، يتم اتهامهم بالإرهاب. والهدف هو جعل البقاء على الأرض شأنًا خطيرًا ومكلفًا -وفي النهاية مستحيلًا.
ضمّ "زاحف" أم ضمّ علني؟
إلى جانب العنف، تدفع إسرائيل بحملة أكثر هدوءًا، وربما أكثر خطورة: الامتصاص القانوني للضفة الغربية المحتلة داخل الدولة الاستيطانية. ولا يعتمد هذا الضم الزاحف على إعلانات أو مراسم. إنه يعمل بخفاء ضمن قوانين التخطيط، والحكم المدني، وعلم الآثار الاستراتيجي.
ولعل أحد أكثر تجليات هذا التحوّل إثارة للقلق هو تسليح علم الآثار. تسعى الحكومة الإسرائيلية إلى وضع الضفة الغربية المحتلة تحت سلطة "هيئة الآثار الإسرائيلية"، بحيث يتم بذلك تجريد الإدارة العسكرية من صلاحياتها وتمرير هذه الصلاحيات إلى جهة مدنية –وهو ضم فعلي.
تحت ذريعة الحفاظ على "التراث التوراتي"، تقوم الحكومة بإعلان مساحات شاسعة كمواقع أثرية أو "حدائق وطنية"، مما يخلق رواية يهودية حصرية تستبعد الفلسطينيين تلقائيًا من البناء أو الزراعة على هذه الأراضي. ويمحو هذا التصنيع للتاريخ المزور الماضي متعدد الطبقات للمنطقة لصالح أسطورة يهودية واحدة مصممة لتبرير الاستعمار.
وباستبدال الحكم العسكري بالقانون المدني، تعيد إسرائيل تصنيف الضفة الغربية المحتلة ليس كأرض محتلة، بل كامتداد سيادي. وبذلك تتلاشى الخطوط بين تل أبيب وطولكرم، ويترسخ نظام الفصل العنصري رسميًا.
تفكيك المركز السياسي
بينما تعمل الجرافات في حفر الحقول وتخنق القوانين القرى، تُعيد تل أبيب أيضًا هندسة الحياة السياسية الفلسطينية. وليس الهدف تفكيك السلطة الفلسطينية المتعاونة كليًا –التي ما تزال تؤدي وظائف إدارية وأمنية في المنطقة (أ)– وإنما تقليصها واختزالها إلى مقاول بلدي منزوع القوة.
في كل ما تفعله، تتجاوز إسرائيل السلطة الفلسطينية كليًا، وتبني علاقات مباشرة مع زعماء العشائر، والمجالس القروية، والوسطاء المحليين. وهي سياسة استعمارية كلاسيكية تقوم على تقسيم السكان الأصليين، والإعلاء من شأن المتعاونين المحليين، والقضاء على إمكانية وجود قيادة وطنية موحدة.
يهدف ذلك إلى تمزيق التماسك الفلسطيني وإعادة صياغة القضية للتحول من نضال تحرري وطني إلى حالات إنسانية معزولة، حيث يتم تقديم مدن مثل الخليل ونابلس وجنين كجماعات منفصلة تحتاج إلى الإحسان.
وبالتوازي مع ذلك، تقوم تل أبيب بخنق السلطة الفلسطينية ماليًا بالاستيلاء على أموال الضرائب الخاصة بها، وفقًا لما تسمح به "اتفاقيات أوسلو". ومع انهيار السلطة الفلسطينية بسبب العجز، يجري استغلال الاضطرابات الناتجة عن ذلك لتبرير المزيد من السيطرة الإسرائيلية.
نكبة جديدة
يشكل حاصل جمع هذه العناصر –وحشية ميليشيات المستوطنين، والزراعة المحروقة، والاستيلاء غير القانوني على الأراضي، والتفكيك السياسي– حملة تهجير قسري بلا دبابات. وهي، باختصار، نكبة صامتة.
يؤكد تقرير لمنظمة "بتسيلم" أن عنف المستوطنين وحده أدى إلى تهجير 44 مجتمعًا من رعاة الأغنام الفلسطينيين منذ بدء الحرب. ويقول يائير دفير من المنظمة: "عندما تنظر إلى ما يحدث، فإنك ستجد منظومة كاملة قائمة. هؤلاء ليسوا مجرد مستوطنين مارقين. إنهم مدعومون من المؤسسة الإسرائيلية. والهدف واضح: تهجير الفلسطينيين بالقوة".
بينما يلتقط العالم صور الدمار في غزة، يجري إفراغ الضفة الغربية المحتلة منهجيًا بأسلحة الخوف، والفقر، والعطش. والهدف الاستراتيجي لإسرائيل هو القضاء على إطار الدولة الفلسطينية، وتكريس واقع الدولة الواحدة التي تكون فيها الحقوق الكاملة لليهود فقط، بينما يجري حشر الفلسطينيين في جيوب منفصلة بلا سيادة، ودفعهم في نهاية المطاف نحو الضفة الشرقية لنهر الأردن.
إن الحديث عن "اليوم التالي" في غزة من دون مواجهة ما يجري ترسيخه في تلال الضفة الغربية المحتلة هو تجاهل لجوهر المشروع. ربما تهدأ الطائرات الحربية، لكن ماكينة الاستعمار –الأسوار، والتصاريح، والقوانين، والطرق والبنادق– لا تتوقف. وهنا بالتحديد، في هذا الصمت المطبق، يكتمل المحو. ويتم رسم مستقبل تُحظر فيه العودة، وتُجرّم فيه العدالة، ويُعاد فيه بناء التاريخ بالخرسانة والأسطورة.
*نشر هذا التحليل تحت عنوان: Gaza’s Smoke Clouds the West Bank’s Flames: The Colonial Project Made Permanent