حين تفيض الشاشات… وتضيق القلوب*د. محمد القضاة
الراي
غدا الحديث عن منصّات التواصل الاجتماعي حديثًا عن الزمن كلّه؛ زمنٍ بات فيه النهار والليل، والبيت والجامعة، والبرّ والبحر، مساحات مفتوحة لا تهدأ فيها حركة الكلمة والصورة، حتى صارَ العالمُ بأسرهِ فضاءً افتراضيًّا يعجُّ بالكلمةِ والصورةِ، يجمعُ الناسَ ويفرّقُهم، ويُقَرِّبُهم ويُباعدُ بينهم، في زمنٍ لم يَعُدْ فيه أحدٌ قادرًا على الانفصالِ عن تأثيرِ هذا العالمِ الذي تَسَلَّل إلى كلِّ زاويةٍ من زوايا الحياةِ بلا استئذانٍ ولا توقّف.
وإنَّ ما نراهُ اليومَ يفرِضُ علينا مكاشفةً صريحةً لا مجالَ فيها للمجاملةِ ولا للمواربةِ، فهذه المنصّاتُ باتت مَعرِضًا لكلِّ رأيٍ وفكرةٍ وتعليقٍ، فيها الجادُّ الرزينُ، وفيها السطحيُّ المتهوِّرُ، وكأنَّ امتلاكَ حسابٍ فيها يُمْنَحُ صاحبَه صكًّا مُطْلَقًا للقولِ بلا حسابٍ، فتتدافعُ الكلماتُ، ويختلطُ فيها الحقُّ بالباطلِ، والعلمُ بالجهلِ، حتى صارَ الجاهلُ يُزاحِمُ العالِمَ، والصغيرُ يُجاري الكبيرَ، وتعودُ الخصوصياتُ على مِحَكٍّ خطيرٍ، وكراماتُ الناسِ هدفًا للطعنِ والاتهامِ، وأعراضُهم ساحةً للخذلانِ والأذى.
ومع ما تقدّمه هذه الوسائلُ من فوائدَ وعلاقاتٍ فكريةٍ وإنسانيةٍ وثقافيةٍ تمتدُّ بلا حدودٍ، إلّا أنّها تحوّلت ـ عند بعضِهم ـ إلى فضاءاتٍ للهجومِ والشتمِ وإشاعةِ الكراهيةِ، وإطلاقِ الشائعاتِ، وتشويهِ السمعةِ، وتضليلِ الرأيِ العام، في ممارساتٍ تجاوزَت حدودَ الأخلاقِ والعُرفِ والقانونِ. وقد أظهرتْ كتاباتٌ مريضةٌ وأفكارٌ موتورةٌ مصادرَ دخيلةً وأجنداتٍ خارجيّةً تسعى إلى زعزعةِ الأمنِ الاجتماعيِّ، وإلى العبثِ بوحدةِ وطنٍ قدّم للعالمِ كلِّه دروسًا ناصعةً في التسامحِ والإنسانيّةِ والتعايشِ والكرامةِ العربيّة.
وتطفو بين الحينِ والآخرِ أصواتٌ كانت بالأمسِ في مواقعِ المسؤوليةِ تتحدّثُ بخطابٍ، وحينَ خرجتْ من مواقعِها أصبحتْ تنطقُ بخطابٍ آخرَ مناقضٍ لما كانت تدّعيه، وكأنّها استفاقتْ فجأةً من غفلةٍ طويلةٍ، فذهبتْ تطرحُ قضايا غريبةً بعيدةً عمّا كانت تُرَدِّدُهُ، وكأنّها تُعيدُ كتابةَ تاريخٍ لم تعشه، أو تنطقُ بحكمةٍ لم تُمارسها يومًا.
وإنّ الوطنَ ليس بحاجةٍ إلى ضجيجِ المزايداتِ ولا إلى بهلوانيّاتِ المنصّاتِ المقلوبةِ، بل هو بحاجةٍ إلى أقلامٍ مخلِصةٍ، وضمائرَ يقظةٍ، وإلى كلمةٍ تبني ولا تهدمُ، وتجمعُ ولا تُفَرِّقُ، وتدافعُ عن قيمِهِ ومكانتهِ، وتواجهُ التحدياتِ بالعزيمةِ والإرادةِ والعملِ الصادقِ. فحبُّ الوطنِ ليس كلماتٍ منمَّقةً تُقالُ في المناسباتِ، بل هو انتماءٌ وفعلٌ وولاءٌ، والكلمةُ التي تُكتَبُ على المنصّاتِ ليست ملكًا لصاحبِها وحده، بل سهمٌ قد يُصيبُ أو يجرحُ أو يهدمُ.
وقد باتت الحاجةُ ماسّةً إلى أن تعودَ هذه الوسائلُ واحاتِ خيرٍ ومحبّةٍ، تُقصى منها بذورُ الفتنةِ والكراهيةِ، ليظلّ ربيعُ النفوسِ أخضرَ كربيعِ هذا الوطنِ الباسقِ بالجمالِ والخُضرةِ والسموّ.
ومع ذلك، تبدو الثقافةُ في هذه الوسائلِ اليوم بين مدٍّ وجزرٍ؛ فهي منظومةٌ قيميّةٌ وفكريّةٌ تهذّبُ الروحَ وترتقي بالوعيِ، غير أنّ كثيرًا ممّا يُتداولُ فيها محتوىً سطحيٌّ تافهٌ يُشيعُ الابتذالَ ويُسيءُ إلى الذوقِ العام، ويصلُ أحيانًا إلى حدِّ الخدشِ والفضائحِ، حتى باتَ بعضُ الكُتّابِ يتصرّفون وكأنّهم خبراءُ في كلِّ شأنٍ، فإذا انكشفَ حجابُ الشاشةِ ظهرَ حجمُ السطحيةِ والفراغِ التي يُخفونها خلف الكلماتِ المنفلتةِ.
وما دامت هذه المنصّاتُ قد أُسِّسَت لخدمةِ الإنسانِ، لا لإيلامه، وللحوارِ، لا للشتمِ والعداوةِ، فإنَّ الحاجةَ إلى وعيٍ عامٍّ تُعيدُ لهذه الأدواتِ غايتها الحقيقيةَ باتت ضرورةً لا خيارًا. ويأتي قانونُ الجرائمِ الإلكترونيّة ـ الذي لا يتعارضُ مع حريةِ الرأي ـ ليحمي المجتمعَ من الاعتداءِ على الخصوصياتِ، وصونِ الأعراضِ، وحفظِ هيبةِ الرموزِ والمؤسّساتِ الوطنيّةِ. فحريةُ الرأي حقٌّ مكفولٌ، لكنّها ليست حريةَ القذفِ والافتراءِ وتشويهِ الحقائقِ.
ولذلك تُصبحُ مسؤوليةُ الشبابِ، وهم روّادُ هذا الفضاءِ الرقميّ، مسؤوليةً كبرى؛ إذ يُنتظرُ منهم أن يكونوا في طليعةِ الوعيِ، وأن يتعاملوا مع هذه الوسائلِ بنضجٍ وإبداعٍ، وأن يدركوا أنّ الكلمةَ مسؤوليةٌ، وأنّ أثرَها قد يُشيِّدُ بناءً أو يُسقِطُ صرحًا، يُنضِرُ الوعيَ أو يُطفئُ نورَه.
وهكذا تتأكدُ ضرورتُنا إلى منظومةٍ فكريةٍ وأخلاقيةٍ تُهذّبُ استخدامَ منصّاتِ التواصلِ الاجتماعيِّ، وتحوّلُها إلى رافدٍ حضاريٍّ يخدمُ الإنسانَ والوطنَ، بدل أن تكونَ أداةً للفوضى والانحدارِ، فإذا استعادَ القلمُ هيبتَه، واستعادتِ الكلمةُ صدقَها، واستعادَ المجتمعُ وعيَه، غدتْ هذه المنصّاتُ قوةَ بناءٍ ونماءٍ وإشراقٍ في طريقِ النهضةِ والوعي.