"لست بخير" لرولا نصراوين.. وثيقة وجدانية تلامس القلب والروح
الغد-عزيزة علي
على أنغام الموسيقا، وقعت الشاعرة رولا نصراوين، أول من أمس، ديوانها الشعري "لستُ بخير"، الصادر عن دار فضاءات للنشر والتوزيع، وذلك في المركز الثقافي الرياضي التابع لجمعية الثقافة والتعليم الأرثوذكسية.
شارك في الحفل، الذي أدار فقراته الزميل الإعلامي صدام المجالي، كل من الشاعر موسى حوامدة، والناقد محمد سلام جميعان، بمرافقة عازف الجيتار فراس محادين.
وقال الناقد محمد سلام جميعان إنه لن يتحدث في هذا الحفل ناقدا تحليليا بالمعنى الأكاديمي للنقد، بل رفيقا في رحلة وجدانية تلامس حدود التجلي، وتنأى عن التحليل المباشر. ففي نصوص رولا، كلمات وعبارات أحبها حتى الألم؛ حروف تنسكب على القلوب لتتفتح من دون أن تحترق.
يقول "كتبتنا رولا بنفسها ووجدانها، لنعبر معها عبر ثلاثة أبواب: باب الحب، وباب غزة، وباب الراحلين من الحياة دون أن نودعهم. فقد سكبت رولا ذاتها في الحرف، فلامست روح القارئ التي تأتي لتوقظه من سكونه، ليقول معها: لستُ بخير".
وبين جميعان أن كل باب من أبوابها الثلاثة يدخلنا إلى ردهات الألم والفقد؛ فقد الحبيب، والوطن، والأب السند الذي نريح عليه رؤوسنا حين يتعبها دوار الحياة، فنلوذ أخيرا إلى الإصغاء كما تصغى الهمسات في العتمة. ونصغي أخيرا إلى أمل ذابل يخنق أوجاعنا، ويخنق الكلمات قبل أن تقال. ولكم، حين تقرأون قصائد رولا، أن تقرأوا ما خبأته في النقطة التي تأتي في آخر السطر.
فالنقطة في آخر السطر، كما يقول، زهرة مفتوحة على جرح قديم ما يزال ينزف في الحاضر، فيكمل القارئ معها نزيف الكلمات، أو يكمل النفس الذي انقطع، بكل احتمالاته غير المكتملة.
وأكد جميعان أن رولا نصراوين لا تنتمي إلا لصدقها حين تكتب، وفي داخلها قيد من حرير، وظل من لهب. فحرفها لا يخون ذاتها العاشقة، ولا وطنها وقضيتها، ولا جرحها حين ينزف فقدا للراحلين؛ لأنها تكتب من موقع الانتماء والحرية. ولا تخشى، في بابها الأول، أن يساء فهم تنهيداتها على المحبوب، بل نحن الرجال -كما قال- من نخاف أن نضيع فيما لا يقال.
وأضاف جميعان أن عبارة "لستُ بخير" ليست جرسا خارجيا يذكرنا بحالنا غير المعافى فحسب، بل هي إيقاع يدعونا للاعتراف بالجرح الذي يبتسم في مرآة الحقيقة. فنصوص رولا وثيقة وجدانية عن علاقة الكاتب بالكتابة، والحبيب بالحرف، والمرأة بذاتها.
إنه نص يذكرنا بأن الغيرة ليست نقيض الحب، بل صورته حين يشتد صدقه. وفيه يلتقي الضوء بالحرف، والقلب بالظل، والحياة بالقصيدة.
ورأى جميعان أن رولا تكتب صيحات احتجاج لا يعرف الأفول طريقا إليه؛ تكتبها بكامل قوتها التعبيرية، وفي سياق أكثر نضجا مما كانت عليه في أعمالها السابقة وتشكيلاتها النثرية.
فقد اجتهدت فيما يجب أن تكون عليه موسيقا نصوصها، فنجحت في تجسيد الغياب والصمت، لتكون أمام صوت صادح له قوته وأثره، يعلن أخيرا اجتيازها لكل ما ناله الزمن أو حاول النيل منه، مما تفور به عاطفتها الذاتية والوطنية والإنسانية، وقدرتها على مواجهة الحياة بروح نضرة ومتجددة.
نصوص رولا، في الديوان، تضعنا على صخور الألم والتجربة؛ لتحول الألم إلى موسيقا، والتجربة القاسية إلى لحن مُتعالٍ، والوجع إلى ضياء داخلي. فكل نص في هذه المجموعة شعاع، وكل كلمة صلاة، وكل لحظة قراءة رحلة في نور الذات والوعي والشفاء.
من جانبه، قال الشاعر موسى حوامدة "بعد أن صدر لي العديد من المجموعات الشعرية، ما زلت أؤمن أن الشعر ضرورة، لكنني لا أعرف لماذا. غير أن رولا نصراوين سبقتني إلى معرفة ضرورة الشعر في الوقت المناسب والمكان المناسب".
وأضاف: "كنت أتوقع لرولا مستقبلا لافتا في القصة القصيرة، فقد دخلت عالم الأدب من باب كتابة القصة والمقالة. لكنها لم تستطع أن تكتم مشاعرها يوم السابع من أكتوبر؛ ولم تقف مع غزة من باب إنساني أو ديني فقط، على أهمية البابين، بل تبنت خيار المقاومة ووقفت معه بكل حواسها ومشاعرها. ولهذا تحركت فيها شاعرية متوثبة ومقاومة، تعرف أن ضرورة الشعر تتجلى حين يكتب منحازا إلى الحق والعدل والتحرير، لا لأي غرض آخر من أغراض الشعر العربي التي صدع النقاد والمؤرخون رؤوسنا بتكرارها من مديح وهجاء وغزل وتشبيب وغيرها".
وأشار حوامدة إلى الإهداء الذي كان كاشفا تقول: "إلى الأردن، وطني الأول والأبدي. إلى غزة التي تنزف مجدا، وفلسطين التي تتكئ على حلم التحرير، وسورية التي ما تزال تبحث عن نبضها بين الركام، وإلى لبنان الذي يحمل وجعه على كتف أغنية، والعراق الذي لا ينحني رغم العواصف، واليمن الذي يحفر الضوء في عتمة الظلام".
ورأى حوامدة أن رولا لا تقف مع هويتها العربية نصرة للهوية أو تعصبا عرقيا، بل شموخا حضاريا وإنسانيا؛ فهي كاتبة وشاعرة شابة تربت في بيت عربي يعرف بوصلة الانتماء، ويقدر معنى الهوية العربية، ويعلي من شأن الإنسان العربي وطموحاته الطبيعية.
ويبقى الجرح الفلسطيني هو المسيطر الأول على مجموعة رولا، منذ عنوانها "لستُ بخير". وتقول فيها: "غزة تزرع أحلامها في مقابر جماعية تكمل أسماء من رحلوا. الصمت في غزة ليس سكينة، بل صرخة عالقة بين الحنجرة والعدم".
وعندما طلبت منه رولا قراءة المجموعة قبل طباعتها، تذكر أن قصيدتها عن الولد الحلو يوسف: "شعره كيرلي وأبيضاني وحلو"، قد هزته. تقول في القصيدة: "كان يوسف عصفورة من العسل يشاكس السكون، يركض على أطراف الفرح، يرتمي كنسمة بين ذراعي أبيه، يغمر أمه بعبارات لا تنضج إلا على شفاه ملائكة: يلا نحضن بعض".
وكذلك قصيدتها عن ريم التي صار جدها أيقونة: "روح الروح". تقول: "خرجت ريم من فم الغبار، حلقت؛ كانت تعرف الطريق إلى السماء كأنها لا تنتمي إلى هذا التراب المكسور، والجد المقهور وجهه من طين، وقلبه شرفة فارغة صغيرة بما يكفي لتسكن بين راحتيه، كبيرة بما يكفي لتشبه الوطن الجريح".
وقال حوامدة إن كل قصائد الديوان كتبت في غزة، لا عنها ولا تضامنا معها. فكل ما يجري في غزة من إبادة جماعية وهمجية ووحشية يسكن كلمات رولا، وكأنها كانت تقيم في غزة جسدا وروحا، لا روحا فقط.
وخلص إلى أن رولا من هنا وجدت أن الشعر ضرورة؛ بوصفه فعلا مقاوما، وبوصفه فعلا إنسانيا، وبوصفه كتابة تشبهها وتشبه انحيازها. وكي يكون اسمها رولا نصراوين، ويكون حضورها صادقا، لا بد أن تقول: إنها بخير، بينما الأمة كلها ليست بخير.
تلا الحفل قيام الشاعرة رولا نصراوين بقراءة مجموعة من قصائد ديوانها، قبل أن تختم الأمسية بتوقيع الديوان للجمهور الحاضر، في مشهد جمع بين الحرف والموسيقا والتفاعل المباشر مع القراء.