الغد-عزيزة علي
سلطت ندوة "الموريسكيون: الأندلسيون الأواخر بين التاريخ والأدب"، التي نظمتها لجنة النقد الأدبي في رابطة الكتاب الأردنيين، الضوء على تجربة فريدة ومأساوية في التاريخ الإسلامي، تمثلت في حياة الموريسكيين بعد سقوط الأندلس، وما رافق ذلك من محاكم تفتيش، تنصير إجباري، وطرد قسري أدى إلى استلاب الهوية الثقافية والدينية.
وكشفت الندوة التي أقيمت أول من أمس في مقر رابطة الكتاب الأردنيين، كيف تناول السرد العربي قضية الموريسكيين، وكيف جسد الأدب صورة الموريسكي المقاوم الذي تصدى للظلم، وحافظ على هويته وتراثه الديني والثقافي رغم القهر والملاحقة.
وتوقفت المتحدثان في الندوة وهما: الكاتبة بشرى الفيومي، والدكتورة فاطمة المحيسن، وأدارها الدكتور أمجد الزعبي، عند دور المرأة الموريسكية في حماية البيت والدين، وأثر هذه التجربة في الأدب المعاصر، من خلال نماذج روائية مثل ثلاثية غرناطة لرضوى عاشور، ورواية حواميم، وغيرهما من الأعمال التي سلطت الضوء على المنفى والشتات.
دعا الدكتور أمجد الزعبي في بداية الندوة إلى قراءة الفاتحة على أرواح شهدائنا في غزة، مؤكدًا موقفنا الثابت في التضامن مع صمودهم وتضحياتهم، ومع حقّ الشعب الفلسطيني في الحرية والكرامة. ففلسطين ستبقى عربية من نهرها إلى بحرها.
وقال الزعبي "إن موضوع "الموريسكيون: الأندلسيون المتأخرون بين التاريخ والأدب"، هو ذو شجون، إذ يمتد بين سقوط آخر معاقل الأندلس (1492–1609) وما رافقته من ممارسات قمعية وحشية تمثلت فيما عُرف بمحاكم التفتيش، مرورًا بما نشهده اليوم من صور تطهير وتهجير لا تقل قسوة. نحن شهود على مأساة معاصرة يدفع ثمنها الإنسان والأرض والهواء والسماء.
من جانبها قالت الدكتورة فاطمة المحسين "إن قصة الموريسكيين تعود إلى 2 يناير 1492، التاريخ المأساوي لسقوط الأندلس وتحقيق الإسبان الكاثوليك لأسطورتهم التي خلت من المسلمين واليهود، وحتى من غير الكاثوليك. وتمثل الحقبة الموريسكية مرحلة مفصلية، إذ كشفت عن أقلية حاولت الدفاع عن إرثها الديني وهويتها، ومقاومة الذوبان في المجتمع الإسباني الجديد، بعد إجبار المسلمين على التحول الديني وتعلم الإسبانية".
وبينت أن ردود فعل المقاومة لدى الشعب الموريسكي تظهر في الدفاع عن هويته، ليس بالسلاح فقط، بل أحيانًا بالخفاء، كما جسّدت التقية التي أفتى بها الفقيه المغربي بوجمعة الوهراني في رسالته الغرباء، والتي سمحت لأهل الأندلس بأداء العبادات سراً لتجنب تنكيل محاكم التفتيش.
وأثرت هذه الظروف في الأدب الأندلسي، فبرز أدبا عربيا فصيحا، وأدبا بعربية ركيكة، وأعمالا مترجمة من المخطوطات الأعجمية والخميادية الموجودة في مكتبات إسبانيا، معبرة عن تجربة المقاومة والحفاظ على الهوية. ورأت المحسين، أنه يمكن تمييز تيارين أدبيين في إسبانيا تناولَا القضية الموريسكية: المدرسة نصف الرسمية (الأدب الإسلامي المنشق): كتب مؤلفوها منادين بالاندماج السلمي مع السلطات المسيحية، مع الحفاظ على صورة المسلم عبر لغة رمزية، وتحذير السلطات من مطاردة الموريسكيين. من أبرز كتّابها: بيريث دي إيثا (الحروب الأهلية في غرناطة) وميغيل دي لونا (قزمان الفرجي). استخدموا التقية كحيلة فنية، كما فعل الشاعر لروخاس ذوريا في مسرحيته، لإظهار مقاومة الموريسكيين سراً مقابل الخضوع الظاهري للسلطة.
وأشارت إلى المدرسة الموريسكية المدجنة: التي اهتمت بتوثيق المسائل الدينية، وتوطيد العلاقة بالعقيدة الإسلامية، وتسجيل الكارثة التي حاقت بالمجتمع الموريسكي، غالبًا بلغة أعجمية. وكلا التيارين، رغم تناقضهما الظاهري، ساهما في الدفاع عن القضية الموريسكية وكشفا المخططات لامتصاص المسلمين وإذابتهم ثقافيًا ودينيًا.
وقالت "إن إشكالية البحث في النصوص الموريسكية الأصلية تكمن في صعوبة فهم الإسبانية القديمة واللهجات القشتالية، مما يستدعي العودة إلى المخطوطات المترجمة والأبحاث العلمية الحديثة، مثل أعمال محمد عنان، والترجمات المنشورة في مراكز البحوث الأكاديمية.
وأضافت أن القضية الموريسكية لم تنته بسقوط غرناطة؛ فهي حاضرة اليوم في دراسات الشتات وأحفاد الموريسكيين، الذين يطالبون بالاعتراف بالمآسي التاريخية واستعادة حقوقهم الرمزية. لذلك، من الضروري أن تتوجه الدراسات الأكاديمية، وخصوصًا في الجامعات العربية، إلى استكشاف هذه الحقبة التاريخية والأدبية، بدءًا من المصادر التاريخية ووصولًا إلى الأدب الموريسكي، لفهم عمق المعاناة والتجربة الإنسانية للموريسكيين.
وتابعت المحيسن، كتب الأدب الموريسكي ليعبّر عن واقع أمة تعرضت للويلات، من ملاحقات محاكم التفتيش إلى الطرد القسري، وفقدان حق ممارسة شعائرها ولغتها التي تمثل هويتها. فقد كان تجريدهم من الدين واللغة وسيلة لاستلاب هويتهم وإجبارهم على الاندماج القسري في مجتمعات جديدة، مما دفعهم إلى الشتات حفاظًا على دينهم وثقافتهم.
وبدورها قالت بشرى الفيومي "إن السرد العربي يمنح القضية الموريسكية حضورًا واسعًا، إذ تتقدم صورة الموريسكي المقاوم لتصبح محور الأحداث ودافع السرد. وغالبًا ما تتجسد هذه الصورة في شخصيات رئيسة تمنح دور البطولة وهالة من الإكبار، كما في عبد الله بن جهور "الموريسكي الأخير"، وأبي موسى الغسّاني "غارب"، ومحمد بن أمية "البشرات"، وبلانكو ورودريغو "الموريسكي"، وعلي حفيد أبي جعفر الورّاق "ثلاثية غرناطة". وأضافت الفيومي أن تهيمن صورة الموريسكي المقاوم على تشكّل الشخصية الموريسكية، فهي تعبير عن رفض الاستيلاب والتذويب، وامتداد للروح المقاومة التي يثيرها استحضار القضية الموريسكية في السياق العربي الراهن. وكانت محاكم التفتيش والتنصير الإجباري الحدث المركزي الذي شكّل دائرة الصراع وعمّق المعاناة الإنسانية، وأدى إلى استيلاب الهوية الإسلامية الأندلسية، بدءا من تغيير الألقاب، وصولا إلى تأثيره على الفرد والجماعة والمكان والعادات واللغة.
ومن أبرز من جسدوا هذه الصورة في الرواية العربية، رضوى عاشور في ثلاثية غرناطة، حيث تبدأ الرواية بالاعتداء على امرأة مسلمة وحرق الكتب في ساحة الرملة، وهو الحدث الذي يصور نهاية عهد الأندلسي القديم وولادة الموريسكي المتخفّي بالتقية.
كما تبيّن الرواية كيف حافظت المرأة المسلمة بذكائها وحنكتها على البيت وهوية أسرها الدينية، وكان لها الدور الأكبر في صون الحياة الإسلامية داخل البيوت، حتى الطرد النهائي العام 1609م.
ورأت الفيومي، أن هناك العديد من الروايات تدور حول محاكم التفتيش والمنفى والطرد مثل رواية "حواميم"، التي تجسّد الصورة المأساوية للموريسكي، الحاملة للوجع والليل الطويل للتهجير القسري. وقد صاغ التخييل السردي هذه التجربة بلغة شاعرية مفجوعة، مشبعة بويلات النفي وشتات الرحيل والفزع من الاغتراب، مع روح صامدة تأمل بالعودة رغم الصعاب.