عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    02-Jul-2025

الاستثمار في كرامة الإنسان*د. محمود أبو فروة الرجبي

 الغد

تهمل كثيرٌ من الدول أهم عمل يمكن أن تقوم به، وهو الاستثمار في كرامة الإنسان، رغم أنه يعد مفتاحًا لأي نهوض حضاري حقيقي، ولعله من الـمفيد القول إن كرامة الإنسان ليست مجرد قيمة أخلاقية مجردة، بل هي أساس متين لكل تنمية شاملة ومستدامة، فعندما يشعر الإنسان بكرامته، يصبح أكثر قدرة على الإنتاج، وأشد حرصًا على الالتزام تجاه مجتمعه، يأتي مفهوم «الاستثمار في كرامة الإنسان»، الذي اقصد به ضرورة بناء بيئة مجتمعية وسياسية واقتصادية خصبة توفر للإنسان الحد الأدنى من الحقوق والضمانات التي تمكنه من أن يعيش حياةً إنسانيةً حقيقية، بعيدًا عن الظلم، والإقصاء، والتمييز، والتهميش، وأي نوع من أنواع الخوف. 
 
 
لقد أظهر التاريخ أن الأمم التي نهضت اتكأت على هذا المفهوم وجعلته واقعًا،  وفي المقابل، فإن المجتمعات التي أهملت الإنسان، وأدارت ظهرها لكرامته، سرعان ما واجهت الفوضى والانهيار والتراجع الحضاري، وعندما ندرس الصيرورات التاريخية، ندرك أن الحكومات والأنظمة التي احترمت كرامة الإنسان استمرت، وتلك التي أهملتها تعرضت لخضات كبيرة، قد تصل أحيانا إلى السقوط والوقوع في فخ الفوضى. 
 
لسوء الحظ أن النموذج الرأسمالي، الذي حقق انتصارًا تاريخيًا مؤقتًا على النماذج الإنسانية الأخرى، خالف كثيرًا من القيم الإنسانية، ورغم أنه حقق نجاحات اقتصادية، إلا أنه عمق الفجوة بين الطبقات، وأدى إلى استغلال ملايين البشر، ورسخ الفردانية وضخم الأنا العليا عند الناس، بحيث أصبح غالبية الناس لا يفكرون بمن يعيش في ظروف سيئة، وإذا ركزنا على الدولة الاغنى في العالم الولايات المتحدة الأمريكية، التي يصل عدد الفقراء فيها وفقًا لاحصاءات مكتب التعداد الأميركي (Census Bureau) لعام 2023 ما يقارب 36.8 مليون شخص أي 11.1 ٪،  وهو رقم صادم بالنسبة للدولة الأكثر إنفاقًا على التسلح في العالم، والتي تضم  30 ٪ من مليارديرات العالم أي 902 مليارديرًا، وما يقرب من 24 مليونير، يزدادون بما يقرب 379 ألفًا يوميًا – جزء منهم بسبب الفقاعات العقارية-. 
النموذج السابق موجود في غالبية دول العالم بشكل أو بآخر، حيث فئة قليلة من الناس تمتلك الثروة، والنفوذ، والعيش الكريم مقابل أغلبية تعاني الأمرين، مع اختلافات في النماذج، ومع أن النظام الاسكندنافي نجح في تقليل هذه الفجوات إلى حد كبير، لكن مقابل ذلك ما يزال ملايين البشر في أنحاء متفرقة من العالم يواجهون انتهاكات صارخة لكرامتهم. فبحسب تقديرات منظمة العمل الدولية لعام 2023، يقدر عدد العاملين قسرًا بأكثر من 27 مليون شخص حول العالم، وفي العالم العربي، يعاني الشباب من معدلات بطالة مرتفعة تتجاوز في بعض الدول 25 ٪، في ظل غياب فرص العمل المنتجة وضعف سياسات التنمية، والتهميش الـمتعمد لبعض الفئات في بعض الدول.
 ومن جهة أخرى، فإن التفاوت في توزيع الثروة عالميا وصل إلى حدودٍ صادمة، إذ يسيطر 1 ٪ من سكان العالم على نحو 44 ٪ من الثروات، بحسب تقرير منظمة أوكسفام لعام 2023. ويضاف إلى ذلك أن أكثر من 80 ٪ من سكان أفريقيا جنوب الصحراء يفتقرون إلى أي نوع من الحماية الاجتماعية، وفق تقارير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. 
لبناء بيئة خصبة تحفظ كرامة الإنسان، لا بد من تبني سياسات شاملة توفر له البدائل الاقتصادية، وتمكنه من العمل الكريم، وتتيح له التعليم والرعاية الصحية والمشاركة المجتمعية، وتعزز حرياته، وتجرم التمييز ضده، فحين يشعر الإنسان بالعدالة، يصبح أكثر التزامًا، وأقدر على العطاء؛ فالكرامة ليست فقط شعورًا معنويا، بل هي أيضًا شرط أساس لتحقيق السعادة الشخصية والجماعية؛ فالمواطن السعيد هو الذي يشعر بأنه محترم، ولا أحد يهدد كرامته.
ومع ذلك، فإن العقبات أمام هذا الاستثمار كبيرة، وفي مقدمتها الحروب التي تشعلها المصالح الاستعمارية والاقتصادية، والفتن الداخلية، وعمليات الاحتلال العسكري المباشر أو غير المباشر، وهيمنة الشركات العالمية الكبرى على الاقتصادات ناهيك عن الشركات العابرة للقارات المسيطرة على الثالوث – قاهر الكرامة كما أسميه- وهي وسائل الإعلام والغذاء والدواء-، وهذه كلها تؤدي إلى زيادة الفجوات بين الناس، وتحريك الفتن، والحروب. 
ومن جهة أخرى، يلاحظ في السنوات الأخيرة تراجع خطير في مؤشرات الديمقراطية وحرية التعبير، حتى في الدول الغربية التي لطالما قدمت نفسها بوصفها حامية للقيم الإنسانية. ففي موضوع الإبادة الجماعية في غزة مثلًا، تم قمع آلاف الأصوات، وتمت معاقبة طلاب وأكاديميين وصحفيين ومواطنين لمجرد تعبيرهم عن التضامن مع الضحايا في عقر دار الديمقراطيات العريقة، وهذا التراجع في الحريات يعد مؤشرًا إلى أن الاستثمار في الإنسان بات مهددًا، وأن الديمقراطية – رغم المآخذ الكبيرة عليها- في طريقها للانقراض، أو التحول لشكل أقل حرية. 
نذهب إلى العالم العربي، وحسب اعتقادي فالطريق ما يزال طويلًا، ولكن الأمل قائم، فبناء كرامة الإنسان العربي يتطلب إصلاحات حقيقية في البنى السياسية والاقتصادية، ومكافحة الفساد، وتحديث مناهج التعليم، وتوفير فرص العمل، وتعزيز حرية الإعلام، وتفعيل المشاركة السياسية لجميع فئات الـمجتمع، ويجب أن نؤمن أنه لا يمكن النهوض دون أن نستثمر في الإنسان أولًا، فالنهضة تحتاج إلى إشعار الناس أنهم جزء حقيقي من أوطانهم، في ظل مفهوم واضح للمواطنة قائم على الإنجاز، والحقوق، ووفق معايير واضحة وعادلة. 
إن الاستثمار في كرامة الإنسان ليس شعارًا بل هي الأساس الذي يبنى عليه تطور الأمم، ولا بد لنا في بلدنا الغالي الأردن، ووطننا العزيز العربي أن نسعى للاستثمار في كرامة الإنسان، وتوفير بيئة خصبة تجعله قادرًا على العيش بحرية، ورخاء، وأن يمتلك دائمًا الخيارات الحياتية الـمختلفة، وأن نحمي الضعفاء والمهمشين من أي استغلال، وبغير ذلك لن نصل إلى تحقيق أهدافنا في الحياة الكريمة، ولنشارك في صنع الحضارة العالمية.