الدستور
يبدو أن السعادة، مثل الفلسفة، لا تولد إلا من رحم المعاناة. فحتى سقراط، الذي عانى من زوجته كثيرا، نصح الشباب قائلا: «تزوجوا، فإما أن تكونوا سعداء، أو تصبحوا فلاسفة». ربما أراد القول إن الزواج مغامرة لا تخلو من وجع، لكنه وجعٌ يعلّمنا النظر أعمق في الحياة.
ولهذا قال أحد الكتّاب في زمن مضى إن البشر أنصاف برتقالات، وكل إنسان يبحث عن نصفه الآخر ليكتمل. لكن كثيرا ما نلتصق بأنصاف لا تشبهنا تماما، ومع ذلك تبقى البرتقالة شبه الكاملة أفضل من النصف المكشوف وما يتعرض له من تلف وخراب.
قبل سنوات أخبرني شاب أنه حين عاد إلى عمله إجازة الزواج نزع حزامه وانهال على زملائه ضربا لأنهم أخفوا عنه لذاذات الزواج. غير أن أحدهم صرخ فيه قائلا: «يا زلمة، الزواج برميل بوجهين، وجه عسل ووجه زفت. اصبر وستعرف المذاق الحقيقي حين تخلطك الحياة».
تذكرت تلك النغمات وأنا أتابع اهتمام بعض شبابنا بيوم العزاب الذي صادف قبل يومين. ففي الصين، قبل أكثر من ربع قرن، أرادت بعض الجمعيات أن تلفت الأنظار إلى مضار الوحدة التي تسببها العزوبية، فاختارت يوم 11/11 ليكون يوما يجتمع فيه العزاب بحثا عن أنصافهم الثانية. وكان اختيار اليوم ذكيا، لأن الواحدات الأربعة ترمز إلى تضاعف الوحدة التي يعيشها من لم يكتمل بعد بشريك.
لكن التجار، كعادتهم في كل زمكان، كانوا أذكى. فهم يرون في كل مناسبة فرصة للربح. فعندما خفت بريق الحب بين الناس، أعادوا إحياء «عيد الحب»، وروّجوا له حتى امتلأت الأسواق بالورود الحمراء والدببة القطنية الغبية. ثم جاء جاك ما، مؤسس موقع «علي بابا»، فحوّل يوم العزاب إلى أكبر موسم تسوق إلكتروني في العالم، محققا مبيعات بمليارات الدولارات. هكذا صار يوما وُلد للتعبير عن الوحدة، مناسبة للتجارة والثراء.
ومع ذلك، ليست المادة وحدها ما يعوق الزواج. فبيننا شباب وشابات ناجحون، يشقون طريقهم بثقة، لكن فكرة الزواج تبدو لهم بعيدة، بل تزداد بعدا كلما ازدادوا نجاحا. ربما لأنهم يظنون أن الشراكة ستحدُّ من حريتهم أو تشوش على طموحهم، أو لأنهم فقدوا الإيمان، بأن الحياة المشتركة يمكن أن تكون امتدادا للنجاح لا خصما منه.
المؤلم أن بعض هؤلاء، من الرجال والنساء، ينهمكون في بناء ذواتهم وتحقيق أحلامهم، فينظر إليهم المجتمع على أنهم ليسوا مشاريع جيدة للزواج، خاصة الفتيات منهن. فيخاف الشباب من الارتباط بهن ظنا أنهن استحواذيات وأن الزواج منهن يعني العيش في ظل نجاحهن. وهذه نظرة قاصرة تظلم الجميع.
كم هو محزن أن يبقى كثير من الناجحين والناجحات أسرى الوحدة القاسية، لا يجدون فرصة لتكوين بيت دافئ وأبناء صالحين. هي مأساة السعادة الزائفة؛ ابتسامات لامعة تخفي خلفها وجعا صامتا، وقلوبا تبحث عن نصفها الآخر وسط زحام العالم الرقمي والعلاقات المؤقتة.