الغد
يختار بعض المثقفين التنويريين انتهاج أسلوب حاد ومباشر في مواجهة المعتقدات والممارسات الاجتماعية الرجعية. ولا يتردد هؤلاء المثقفون في تسمية ما يرونه جهلًا أو خرافاتية أو ظلماً باسمه، مهما تكن هذه الظواهر متجذرة أو واسعة القبول. وكما يرون، يقتضي الوضوح والقناعة الأخلاقيين المواجهة. الحقيقة ينبغي أن تقال، حتى لو كانت جارحة. أسلوبهم لا يقبل التسوية، بل ويحبذ الاستفزاز. إنهم يضربون في عمق القناعات السائدة، ويُعرون ما يتجنب الآخرون ملامسته، ويرفضون أنواع الصمت المهذب الذي يحمي في كثير من الأحيان المنظومات الفكرية المتخلفة. ووفق هذا المنهج، تكون المواجهة واجبًا أخلاقيًا، وأي تهاون تواطؤًا مع ديمومة التخلف.
وثمة، في المقابل، من يرون أنك حتى تُسمع، ينبغي أولًا أن يُستمَع إليك. ولن يستمع الناس إلى أحد يشعرهم بأنهم قيد الهجوم والإهانة. ويدعو هؤلاء التنويريون إلى مزاج متروٍ، صبور وإستراتيجي في بث الأفكار. إنهم يدركون أن المعتقدات –حتى وإن كانت مَعيبة- غالبًا ما تكون منضفرة بالهوية، والعائلة، والثقافة– وربما المعاناة. ولذلك تتطلب زعزعتها إلى الذكاء العاطفي أكثر من الحجة المنطقية. ويحذر هؤلاء المثقفون من الآثار المنفّرة للنقد الخام؛ من أنه ربما ينتج المقاومة بدلًا من التأمل، والتمترُس الدفاعي بدلًا من الشك. ويختار هؤلاء التنويريون أسلوب المكر الذكي والإقناع، وينسجون نقدهم في نسيج الخطاب السائد بدلًا من الوقوف خارجه والصراخ عليه من مكبّر صوت.
وإذن، أي الأسلوبين أصلح لأن يعتنقه المثقف التقدمي؟ هل من الأفضل المغامرة بالرفض باسم الحقيقة، أم تكييف الأسلوب من أجل التأثير على المدى الطويل؟ والأهم: هل التنويري الصدامي بالضرورة أكثر شجاعة ومبدئية أو فعالية من المثقف الحذِر؟ أم أن هذا النوع من المباشرة يصبح شكلًا من الاستعراضية الفكرية– التي ترضي «أناه»، وتطرب لإطراء المماثلين في التفكير، وإنما تكون في نهاية المطاف غير فعالة في تغيير نظرات الجمهور الأوسع؟
ربما تكمن الإجابة في تعريف غاية التنوير نفسها. هل الغرض منه هو تعبير المرء عن تفوقه الأخلاقي والمنطقي؟ أم أن الغاية هي تحويل العقليات وأطر الفكر، ودعوة الآخرين إلى استكشاف طرائق جديدة للتفكير؟ في الحقيقة، ليست هذه الغايات متوافقة دائمًا. وعادة ما تأتي الرغبة في تأكيد الحقيقة بالقوة على حساب قابلية الآخرين لتلقّيها؛ في حين أن الرغبة في الإقناع قد تقود المرء إلى تخفيف كثافة الحقيقة أو تغليفها باللطف المفرط إلى حد إفراغها من أي تأثير حقيقي. وقد يكون اختيار مزيج من الرغبتين خطأ أيضًا. وربما يكون السؤال الأهم هو: أي الأسلوبين ينجح، وأين، ومتى، ومع من؟
من المؤكد أن المواجهة، حين تُمارس بوعي، قادرة على صدم الناس وإخراجهم من حالة الرضا الذاتي المريحة التي ينتجها الامتثال. ولهذه المواجهة تاريخ طويل ونبيل حقًا- من سقراط في الساحة العامة، إلى هجائيات فولتير، إلى نقد جيمس بالدوين اللاذع للعنصرية الأميركية. في بعض الأحيان يحتاج الناس إلى زعزعة استقرارهم. وفي بعض الأحيان، تكون الكياسة نوعًا من الجبن، وطريقة لتجنّب المشقة التي تصاحب التحوّل الحقيقي. لكن للمواجهة حدودها أيضًا. عندما تُمارس بإفراط أو بلا معايرة، يمكن أن تجلب من المعارضة المتصلبة أكثر مما تجلب من الانفتاح. وبدلًا من زعزعة العقائد المتصلبة، يمكن أن ترسخها. ربما تجعل المستمع يشعر بأنه مستهدف، لا على مستوى أفكاره فحسب، بل في صميم إحساسه بذاته، وبذلك ينكفئ إلى الدفاع ويصبح في بعض الأحيان أكثر تصلبًا مما كان.
في المقابل، قد يبدو التنويري الحذر أقل راديكالية، لكنه يعمل في الحقيقة بطريقة أكثر إستراتيجية وفعالية. باختياره عدم استفزاز المتلقي، يتجنب الرفض الفوري. وربما يطرح فكرة غير مألوفة في إطار مألوف ويقود جمهوره تدريجيًا نحو إعادة النظر في ما يعتقدون. ربما يُنظر إلى هذا الأسلوب على أنه مهادنة أو افتقار إلى الشجاعة، لكنه يتطلب قدرًا أكبر من القوة والانضباط من البديل الصاخب. ثمة الكثير من الصبر اللازم لمرافقة أحد لاستكشاف مناطق خطئه من دون إذلاله. وثمة الكثير من المهارة اللازمة للموازنة بين الوضوح والتعاطف، خاصة لدى التعامل مع معتقدات يراها الآخرون مقدسة أو وجودية.
ثمة أيضًا مسألة الجمهور– الأهم في الأمر كله. عادة ما يروق التنويري الصدامي لأولئك المهيئين سلفًا للموافقة عليه. وعادة ما تحفّز كلماته المُقتنعين أصلًا، لترسم بذلك خطوطًا بين «المستنيرين» و»الجاهلين». ومن المؤكد أن هذا الموقف يخلق شعورًا بالتضامن، لكنه ينطوي على احتمال العزلة. في الحقيقة، سوف ترى في مواقع التواصل الاجتماعي مثقفين متنورين لا شك في صدق نواياهم ووجاهة أفكارهم. لكنك سترى في التعليقات نفس الأسماء المتماثلة في التفكير تكيل الإطراء، وقدرًا أكبر بكثير من الشاتمين المزدرين الذين استفزتهم حدة الطرح– الذين ربما يذهب بعضهم إلى استغلال قوانين الرقابة على الفكر للتشويش على صاحب الطرح. وفي المقابل، قد يتمكن الأسلوب الأكثر دقة ومرونة من الوصول إلى المترددين، أو الفضوليين، أو الذين لم يحسموا مواقفهم بعد. وبهذا المعنى، ربما لا تكمن الشجاعة في درجة علوّ الصوت بقدر ما تتعلق بالقدرة على الملاحة في ضباب المنطقة الوسطى، حيث التغيير أصعب وأبطأ، لكنه الأشدّ ضرورة.
أيًا يكن، لا يجدر الحكم على فاعلية أي من النهجين في منطقة التجريد. الأمر يعتمد كله على السياق: الثقافي، والسياسي، والتاريخي، والنفسي. في أوقات القمع الشديد أو الأزمات، ربما تكون المواجهة ضرورية لهدم جدار الخوف والصمت. وفي لحظات الانتقال البطيء أو الركود الثقافي، ربما يكون الإقناع الهادئ هو السبيل للتقدّم. وربما يكون أكثر المثقفين حكمة هم أولئك الذين يعرفون متى يُصعّدون ومتى يهدّئون؛ متى يقفون على مسافة، ومتى ينضمون.
لكن المؤكد أن التنوير ليس حوارًا داخليًا. إنه عملية، وتواصل، وتفاعل. لا يكفي أن تمتلك الحقيقة، أو حتى أن تُعلنها؛ بل ينبغي أن تبثها وتنقلها، بوضوح وإقناع ومسؤولية. ويتعلق البث بأكثر من الكلمات؛ بالعلاقات، والتوقيت، والمناخات العاطفية للمستهدفين بالتنوير. وبذلك، يتعدى السؤال الشجاعة أو الأسلوب إلى المسؤولية. على المثقف التقدمي أن يحاور نفسه: هل أتحدث لتحرير الآخرين أم لأرضي ذاتي؟ هل أنا بصدد بناء الجسور أم حرقها؟ هل أزرع التحوّل، أم أستعرض صلاحي الذاتي في عرض شخصي أو لجمهوري المحدود المعروف؟
لا أخفي انحيازي إلى التنويري الحذر، من ملاحظتي لمدى الرفض القَبلي، والسباب، والعداء التي يصادفها التنويري الصدامي –وبذلك انتفاء إمكانية التواصل سلفًا. لطالما اعتقدت أن بوسع المرء قول الشيء نفسه بطريقتين –أو بعدة طرق في الحقيقة. يمكن أن تكون عبارة «السلام عليكم» تحية، ويمكن بنفس المقدار أن تكون استفزازية وعدائية، اعتمادًا على النبرة، ولغة الجسد، والموقف. بل يمكن أن يكون التنويري لا صداميًا بالمطلق ولا لينًا بالكامل، واعيًا لحقيقة أن العقل البشري ينفتح وفق شروط. وتقضي الحرفة قراءة هذه الشروط بذكاء ودقة، والاستجابة لها بما يجب كما يجب– ليس من موقف الاستعلاء، وإنما من موقف الوفاء للمهمة الغيرية.