وحدة الموقف الفلسطيني.. من يعطلها؟*نادية سعدالدين
الغد
خلال عامين ونيف من أشد مراحل القضية الفلسطينية خطراً وجودياً؛ نظير إبادة صهيونية أراقت الدم الفلسطيني ودمرت مقومات الحياة في قطاع غزة، ومخطط لتهجير الفلسطينيين ما يزال ماثلاً في منظور الساسة الصهاينة ولن يتخلوا عنه قط لأن فيه دعامة بقائهم، وإزاء مشروع ضم الضفة الغربية وتهويد القدس الذي يتم بخطوات متسارعة، لم يكن للموقف الفلسطيني الموحد أثرٌ، وكأن ما يحدث على أرض فلسطين المحتلة ليس دافعاً كفاية للوحدة الوطنية الفلسطينية.
وتكمن المفارقة هنا أن حرب الإبادة المتواصلة في غزة ومخططات التهجير والضم وتفكيك أي إمكانية لحل سياسي، كان يُفترض أن تشكل لحظة تاريخية نحو إنهاء الانقسام الفلسطيني الممتد منذ عام 2007، وتحقيق المصالحة بين حركتي «فتح و»حماس»، لكن الواقع أثبت أن التهديدات الكبرى وحدها لا تصنع الوحدة طالما كانت الإرادة الوطنية الحقيقية غائبة.
لقد شكل الانقسام أبرز التحولات العميقة في بنية المجتمع الفلسطيني، وتحول من خلاف سياسي قابل للاحتواء إلى بنية مُعقدة تتحكم بها اعتبارات تنظيمية وأمنية وإقليمية ودولية. وعلى الرغم من كل المحطات التي كان يُنتظر فيها أن يلتئم الصف الفلسطيني، فإن واقع الانقسام ما يزال قائماً، بل يزداد ترسخاً.
ولعل أبرز عوامل تعطيل وحدة الموقف الفلسطيني تتمثل في البنية المؤسسية للنظام السياسي الفلسطيني، إذ نتيجة تكريس الانقسام لانفصال جغرافي حاد بين الضفة الغربية وقطاع غزة، يعيش الفلسطينيون منذ سنوات طويلة ضمن نظامين سياسيين منفصلين؛ أحدهما تقوده السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، والآخر تديره حركة «حماس» في قطاع غزة. هذه الازدواجية لم تعد مجرد حالة مؤقتة، بل ترسخت في مؤسسات أمنية وإدارية ومالية مستقلة لكل طرف، ما جعل إعادة توحيدها تتطلب كلفة سياسية كبيرة لا يبدو أي من الطرفين مستعداً لتحملها بسهولة.
وأسهمت الرؤية الاستراتيجية المتباينة تجاه الصراع العربي – الصهيوني في إدامة الانقسام؛ إزاء خطابين متناظرين لم يُقيض لهما التلاقي حتى الآن، أحدهما تقوده السلطة الفلسطينية، ومعها «فتح»، يدعو إلى اعتماد المسار التفاوضي نهجاً أوحداً بإخضاع القضية الفلسطينية لموازين القوى فقط، مقابل آخر، تقوده «حماس»، يتبنى خط المقاومة خياراً استراتيجياً لمواجهة الاحتلال ونيل الحقوق الوطنية الفلسطينية المشروعة.
ورغم أن التباين الفكري ليس من المستحيل تجاوزه، إلا أن هذا الاختلال تحول إلى صراع نفوذ ورؤية حول من يحتكر تمثيل الشعب الفلسطيني، خاصة في ظل غياب استراتيجية وطنية موحدة.
ومع طول أمد الانقسام، نشأت شبكات مصالح تنظيمية وامتيازات، لاسيما في رام الله، تستفيد من بقاء الوضع القائم. وهذه البُنى، في الأجهزة والإدارات والاقتصاد وبعض النخب، تتلقى نفوذاً وموارد لم تكن لتحصل عليها في حال وجود سلطة سياسية موحدة، مما يجعلها مقاومة لفكرة المصالحة.
وبينما يتغذى الاحتلال من استمرار الانقسام الفلسطيني لتنفيذ مشروعه الاستعماري الاستيطاني التوسعي في فلسطين المحتلة، فقد لعبت الحسابات الإقليمية والدولية دوراً لا يستهان به. إذ أصبح لكل طرف شبكة داعمين إقليميين غالباً ما تتباين أولوياتهم وتنعكس خلافاتهم على فرص المصالحة. كما أن بعض القوى الدولية والإقليمية تستثمر في استمرار الانقسام بوصفه يضمن عدم بلورة موقف فلسطيني موحد قادر على فرض أجندته.
لا شك أن الانقسام يُعد إحدى تجليات اتفاق «أوسلو» الذي شكل نقطة تحول حاسمة في تكوين الحقل السياسي الفلسطيني عند الانتقال من حقل منظمة التحرير الوطني، الذي تديره وتتفاعل في إطاره حركة تحرر (متعددة الأحزاب والتنظيمات السياسية) إلى حقل تديره وترتب وضعه سلطة حكم ذاتي يحكمها عدد من التدابير والقيود والالتزامات الأحادية، وفي مقدمتها التخلي عن الكفاح المسلح واعتماد استراتيجية التفاوض والاعتراف بالكيان المُحتل، مقابل اعتراف الأخير بالمنظمة دون إقراره بالحقوق الوطنية الفلسطينية؛ مما أوجد تحولاً في النظام السياسي الفلسطيني على أساس سلطة ومعارضة، وليس على أساس مجرد تنظيمات تتفق وتختلف في إطار تنظيمي جامع ممثل بالمنظمة.
إن وحدة الموقف الفلسطيني ليست شعاراً سياسياً، بل ضرورة وجودية لشعب يواجه أخطر لحظات مصيره، ولن تتحقق إلا بقرار وطني صادق يتقدم فيه المشروع الفلسطيني الجامع على كل الحسابات الأخرى.