الغد- إسراء الردايدة
في 22 دقيقة فقط، تفتح المخرجة الأردنية مي الغوطي نافذةً واسعة على الذاكرة الجمعية، مستثمرة ترنيمة المطر كحامل رمزي لمعاني الانتماء، والحنين، والصراع الداخلي. فيلمها القصير أهازيج لا يقدم مجرد دراما نسائية متعددة الأجيال، بل يعيد مساءلة العلاقة بين الماضي والتراث، وبين الحاضر ومآزقه، من خلال مزج بصري وشعوري بين الأهازيج الشعبية الفلسطينية وواقع ثلاث نساء يواجهن أزمات وجودية صامتة في يوم واحد.
يتعامل الفيلم مع "أهازيج المطر" ليس كعنصر فولكلوري مزخرف، بل كمفتاح درامي وإنساني لفهم الشخصيات، وتفكيك الزمن النفسي الذي تعيشه كل منهن. تصبح مريم (74 عاما)، المُشخّصة بألزهايمر، أكثر الشخصيات تماسكًا على عكس ما يُظن، فهي وحدها التي تحفظ نغمة المطر، وتحمل الذاكرة الثقافية التي تتقاطع بها حكايات الشابة التي تكتم صراعها، وآية التي تنتظر حياة لم تأتِ بعد عبر أطفال الأنابيب.
ما تقدمه الغوطي هنا ليس مجرد حنين إلى تقاليد منقرضة، بل استعادة ذكية للتراث كأداة نقدية وتحريرية، تربط بين نساء في مراحل عمرية مختلفة توحدهن لحظة مطر واحدة وصوت واحد: صوت الجدّات المنسيات. بهذا الأسلوب، يغدو الفيلم تجربة سينمائية حميمة، تنسج الهشاشة والرجاء في آن معا، وتؤكد أن الأهازيج لم تكن يوماً مجرد أغنية، بل مرآة لزمن لا يُنسى، ولو حاول النسيان أن يبتلعه، عبر أبسط الأشياء: أغنية مطر عابرة، يتردد صداها في ذاكرة امرأة مسنة، فيصبح هذا الصدى رابطا إنسانيا بين ثلاث مصائر.
من الواقع إلى الدراما
رغم أن قصص الفيلم، الذي عرض في مهرجان عمّان السينمائي – أول فيلم خارج المسابقات، مستوحاة من وقائع حقيقية وتجارب نسائية معاصرة، فضلت مي الغوطي معالجتها بأسلوب روائي قصير بدلاً من تقديمها ضمن فيلم وثائقي تقليدي. هذا الخيار الإخراجي كان واعيًا لمنح العمل حيوية فنية تبقيه في الذاكرة.
وتشرح الغوطي رؤيتها قائلة: "أميلُ إلى الأسلوب الروائي وليس الوثائقي؛ أشعرُ أنه يبقى أطول في الذاكرة ويدوم كفيلم سينمائي". بهذا النهج، استخدمت المخرجة تقنيات السرد السينمائي والتمثيل الدرامي لتجسيد القصص الحقيقية، مما أضفى على الحكايات بعدًا رمزيًا وفنيًا أعمق من مجرد توثيقها المباشر.
لقد أثرى الأسلوب الروائي الفيلم بلغة بصرية وشاعرية تُقرّب المشاهد من شخصياته وتفاصيل حيواتهم اليومية، بدلا من اعتماد أسلوب تقريري. وتوضح الغوطي أنها تميل إلى هذا الخيار الإبداعي لأنه الأبقى أثراً في نفس المشاهد والأقدر على إيصال التجربة الإنسانية بمستوى شعوري عالٍ. وقد نجحت عبر ذلك في تحويل حكايات واقعية إلى عمل فني متكامل العناصر، يحافظ على صدق الواقع لكنه يملك جمالية السينما الروائية وجاذبيتها.
وعن مصدر الإلهام لفكرة الفيلم، كشفت مي الغوطي لـ "الغد" أن جذورها تعود إلى تجربة شخصية دافئة. فحين سُئلت إن كانت الشرارة الأولى قد انبثقت من حكايات سمعتها من والدتها في المطبخ العائلي تؤكد الغوطي: "نعم، كنّا داخل المطبخ حين شعرتُ أن لديَّ رغبةً في أن أصنع من تلك اللحظة فيلمي". تلك الومضة الأولى – مشهد أم تحكي قصة في مطبخ بيت – أثمرت رؤية سينمائية حول المرأة والتراث والمكان. المطبخ هنا لم يكن مجرد خلفية عابرة، بل تحوّل إلى فضاء حميمي تولد فيه الذكريات وتتوارث الحكايات عبر الأجيال. لقد استمدّت الغوطي من دفء ذاك المطبخ العائلي ومرويات الأم شعلةً أضاءت لها طريق بناء السيناريو ورسم الشخصيات النسائية الثلاث. وهكذا جاء الفيلم بشكل ما امتدادًا لـ"سرد الأم"، حيث انتقلت الحكايات الشفوية من نطاق العائلة المحدود إلى فضاء الشاشة الكبيرة لتصل جمهورًا أوسع.
المطبخ والطعام كمسرح للسرد النسوي
يحضر المطبخ والطعام في أهازيج بوصفه أكثر من مجرد خلفية مكانية، بل كفضاء رمزي تنعكس فيه حالات الشخصيات وتحوّلاتهن النفسية. تنقل المخرجة مي الغوطي المشاهد إلى هذا المكان اليومي الحميم، لتجعله مركزًا للسرد وأداة لفهم الضغوط التي تواجهها النساء. ففي إحدى القصص، تعاني البطلة آية من قلق الانتظار بعد عملية تلقيح صناعي، وتجد في تناول الطعام وسيلة للتنفيس.
تُظهرها الكاميرا في لحظة هشة، تلتهم كعكة بشراهة، في مشهد يجسد كيف يتحول الطعام إلى متنفس عاطفي لحظة الانكسار.
كما يتحوّل المطبخ إلى انعكاس لحالة الانشغال الذهني والروتين المُنهِك، حيث تلجأ آية إلى التنظيف وإعداد الطعام كطريقة للهرب من القلق والإحساس بالفراغ.
هذا الانغماس في المهام اليومية يمنحها نوعًا من السيطرة المؤقتة وسط واقعها المعلّق. المطبخ هنا ليس مجرد ديكور، بل مسرح للذاكرة وللأدوار التقليدية التي تُعاد قراءتها بعين نقدية، إذ تتقاطع فيه الأصوات الداخلية للشخصيات مع أصداء أهزوجة المطر القادمة من الماضي. كل تفصيلة – من قطعة حلوى إلى أداة مطبخ – تصبح امتدادًا لحكاية امرأة تبحث عن ذاتها وسط الضغوط، فيتحوّل هذا المكان إلى مرآة تعكس صراعاتها وصمودها في آن.
ثلاث نساء.. أجيال مختلفة وتجربة واحدة
اختيار ثلاث شخصيات نسائية تحديدًا لم يكن اعتباطيًا؛ فقد أرادت المخرجة تمثيل تجارب عمرية مختلفة ضمن إطار مشترك، في إشارة إلى استمرارية معاناة المرأة وإن اختلفت صورها عبر الأجيال. تقول مي الغوطي عن بطلات فيلمها: "قدّمتُ ثلاث نساء، كل واحدة لها قصة مختلفة ومن فئة عمرية مختلفة، ولكلٍّ منهنّ ضغطٌ معين يشغل بالها... فالحياة اليومية لكل شخص فيها صراعه الخاص وراء الأبواب المغلقة، وما يجمعهنّ أنهنّ قرّرن المُضيّ قدمًا رغم كل شيء".
في هذا التصريح يتضح هدف الغوطي من رسم شخصياتها: الكشف عن الصراع الداخلي اليومي الذي تعيشه كل امرأة بصمت خلف باب بيتها، سواء كانت عجوزًا تصارع النسيان، أو سيدةً تواجه ضغط المجتمع والأسرة، أو شابةً تكابد مخاوفها وهشاشتها. وبرغم تباين الأعمار والظروف، تجمعهن فكرة الأمل والإصرار على الاستمرار وعدم الاستسلام للواقع القاسي.
فعلى سبيل المثال، فمريم قامت بدورها الفنانة القديرة شفيقة الطل (السبعينية) جيل النكبة والذاكرة المثقلة بالتراث؛ فهي تجد عزاءها الوحيد في ترديد أهزوجة المطر القديمة التي تحفظها عن ظهر قلب كجزء من هويتها التي ترفض الضياع.
أما آية فلعبت دورها الممثلة سميرة الأسير (في منتصف الثلاثينيات) فتمثل جيلًا يواجه ضغوطًا حديثة نسبيًا – كضغط الإنجاب والتوقعات المجتمعية للمرأة المعاصرة – لكنها تكافح لتحقيق حلم الأمومة دون أن تفقد إنسانيتها.
والشخصية الثالثة حنين" صوفيا أسير" (يمكن أن نفترض أنها في العشرينيات من عمرها) تواجه بدورها تحديا يخص علاقتها بعائلتها وهويتها الذاتية، ربما الخجل من الأب أو الإرث العائلي كما يوحي سياق الفيلم.
وبالرغم من أن الفيلم لا يسمي هذه القضايا بشكل مباشر، إلا أنه يلمح إلى هموم المرأة الفلسطينية والعربية عبر مراحل العمر: من فتاة يافعة تصطدم قيمها بواقع أسرتها، إلى امرأة ناضجة تصارع معايير المجتمع، وصولًا إلى عجوز تتشبث بماضيها وتراثها خوفًا من العزلة والنسيان. جميعهن في النهاية يجمعهن الأمل والإرادة على المضي قدمًا في الحياة، وهو الخيط الإنساني الذي يجعل حكاياتهن المتباعدة قصةً واحدة متعددة الأوجه.
توازن الصوت والصورة: أهازيج المطر
من الناحية الجمالية، أولت مي الغوطي اهتمامًا خاصًا للصوت في فيلم "أهازيج"، معتبرةً أن التراث لا يُروى فقط بالصورة، بل يجب أن يُسمع بوضوح ليحمل صداه الأصيل. فقد حرصت على أن يكون العنصر السمعي جزءا متكاملا من السرد، يعكس خصوصية الذاكرة الشعبية ولا يقل أهمية عن الجانب البصري. في بداية الفيلم، اختارت تقديم الأهزوجة بأصوات جماعية تؤديها فرقة موزايكا الشعبية، في محاكاة لأداء الأهازيج كما كان يُمارس قديمًا، حيث يتردد الصوت من الجموع ليجسد الإحساس الجماعي والانتماء المشترك.
أما في ختام العمل، فقد فضّلت أن تُغنّى الأهزوجة بصوت فردي، تؤديه الممثلة شفيقة الطل وحدها، دون مؤثرات صاخبة أو موسيقى تصويرية تُغطي على الصوت، لتمنح لحظة الختام بُعدا وجدانيا هادئا، يعكس أن التراث يمكن أن يبقى حيًا حتى لو بقي في صوتٍ واحد يؤمن به.
هذا التوازن الصوتي لم يكن عفويًا، بل نتيجة لقرارات إخراجية واعية. فقد استبدلت الغوطي الخلفية الموسيقية التقليدية بمؤثرات سمعية طبيعية، مثل أصوات المطر الحقيقي وهمهمات النساء في أثناء الدعاء للغيث، لتجعل من الصوت عنصرًا حيًا في بناء المشهد. وبدلًا من اللجوء إلى مؤثرات درامية جاهزة، اعتمدت على الصوت الطبيعي بوصفه وسيلة غمر حسّي تنقل المشاهد إلى قلب التجربة، ليشعر وكأنه حاضر في المكان، يستمع إلى زخات المطر ويشارك في ترديد الأهزوجة.
وفي هذه اللحظة، تندمج الطبيعة بالإنسان في نغمة واحدة، حيث يصبح المطر والصوت البشري جزأين من سيمفونية الحياة. بهذه الرؤية، أعادت مي الغوطي للأهازيج الشعبية مكانتها، لا كزينة تراثية أو استدعاء فولكلوري، بل كلاعب أساسي في الحكاية يحمل ذاكرة المكان ويثير أسئلة جديدة حوله.
بالرغم من الإمكانات المحدودة، واجه فريق عمل فيلم "أهازيج" تحديات تقنية أثناء التصوير، لا سيما في المشاهد الخارجية.
توضح المخرجة مي الغوطي أن تصوير المشاهد الداخلية، خاصة في المطبخ، كان أكثر سلاسة بفضل التحكم في الإضاءة والزوايا، بينما تطلبت المشاهد الخارجية تنسيقًا دقيقًا، خصوصًا مشهد النهاية على شرفة المنزل، حيث اجتمع عدد من المشاركين لأداء الأهزوجة في ظروف مناخية مفتوحة. وللتغلب على ذلك، اعتمدت الغوطي على حلول بديلة وابتكارات بصرية نقلت إحساس اللحظة رغم بساطة الموارد.
لا تفضل مي الغوطي أن توجّه رسائل مباشرة أو تبني أفلاما على شعارات جاهزة. لكنها في الوقت ذاته تدرك تمامًا أن ما يقدّمه أهازيج هو أكثر من حكاية؛ إنه شعور، وموقف، ونظرة إلى العالم. "أردتُ فقط أن أُبقي في الفيلم بصيص أمل"، تقول الغوطي، مشيرة إلى أن كل شخصية رغم ألمها، تشبّثت بنقطة ضوء صغيرة لم تطفأ.
مريم تجد من يرافقها في غناء الأهزوجة رغم نوبات النسيان، وآية ما زالت تنتظر احتمال الحلم، وحنين اتخذت أول خطوة للخروج من عزلتها. لا حلول سحرية ولا نهايات وردية، بل استمرارية مقاومة يومية. تلك الرسالة الصامتة، التي تتسلل برقة عبر المشاهد، تترك في المتلقي أثرًا قد يبقى طويلًا بعد انتهاء العرض.
صوت نسائي يتجاوز الحدود
تؤمن الغوطي أن التجربة التي نقلتها في أهازيج لا تخص فلسطين وحدها، ولا نساء الفيلم فقط. فاستحضار التراث الشعبي كأداة لسرد النسوي – سواء أكان أهزوجة، أو حكاية مطبخ، أو مثلًا دارجًا – يمكن أن يُعاد توظيفه في بيئات مختلفة حول العالم. فما يشترك فيه الجميع هو الحاجة إلى التعبير عن الذات، إلى تذكّر ما يُنسى، والقبض على لحظة حياة تُروى من منظور داخلي صادق.
لهذا، لا تسعى الغوطي لتحويل الفيلم إلى مشروع متسلسل، بل تراه تجربة مكتملة بذاتها، قابلة للتكرار بروح مختلفة في ثقافات أخرى. يكفيها أن الفيلم أدى غايته: أنصت لصوت امرأة، واستعاد تقليدًا كاد يُمحى، ورفع الأغنية الشعبية من الهامش إلى الشاشة الكبيرة لتصبح شهادةً على ذاكرة ما تزال تنبض.
فقد استطاعت مي الغوطي هذا أن تدمج التراثي بالمعاصر، وتحفظ ذاكرة المطر الفلسطينية من النسيان من خلال سرد سينمائي دافئ ومبدع. وبين حبات المطر المتساقطة ونغمات الأهزوجة العتيقة، ينبعث صوت المرأة الفلسطينية قويًا وحاضرًا، يروي للعالم قصص أمل وصمود لا تموت بتقادم الزمن.