الغد
منذ توليه العرش عام 1999، حمل الملك عبد الله الثاني قضية فلسطين كأولوية مركزية في خطابه السياسي والدبلوماسي، واضعًا إياها في صدارة جهوده الإقليمية والدولية. لقد كان يؤمن أن تحقيق السلام العادل والشامل في المنطقة لا يمكن أن يتم إلا عبر الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة على حدود الرابع من حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. هذه الرؤية لم تكن مجرد شعارات، بل اتخذت مسارًا متصاعدًا عبر مؤتمرات دولية وخطابات رسمية ومبادرات سياسية شكلت ضغطًا مستمرًا على المجتمع الدولي حتى وصل العالم إلى لحظة الاعتراف الفعلي بالدولة الفلسطينية.
في بداية الألفية الجديدة، ومع اندلاع الانتفاضة الثانية، لعب الملك دورًا نشطًا في المحافل الدولية محذرًا من خطورة استمرار الاحتلال وسياسات الاستيطان على استقرار المنطقة. وفي عام 2002، حين طرح العرب "مبادرة السلام العربية" في قمة بيروت، كان للأردن بقيادة الملك عبد الله دور في حشد الدعم لهذه المبادرة التي شكلت إطارًا إستراتيجيًا يربط الاعتراف بإسرائيل بإقامة الدولة الفلسطينية وانسحابها من الأراضي المحتلة. ومنذ ذلك الحين، استثمر الملك كل حضوره الدولي في التذكير بأن هذه المبادرة لا تزال تمثل أساسًا عادلاً للتسوية.
في عام 2007، خلال مؤتمر أنابوليس الذي دعت إليه الولايات المتحدة، ألقى الملك كلمة شدد فيها على أن الوقت حان لوقف المماطلة وإعطاء الفلسطينيين حقهم المشروع في الدولة، مؤكدًا أن العالم لم يعد يحتمل مزيدًا من الصراع. وقد كان واضحًا في خطابه أن البديل عن حل الدولتين هو دوامة جديدة من العنف تهدد الأمن العالمي. هذه اللغة المباشرة ميزت مقاربات الملك عبدالله في كل مناسبة، فكان يخاطب القادة الدوليين بمنطق سياسي متوازن لكنه صريح.
مع حلول العقد الثاني من الألفية، صعّد الملك من نشاطه الدبلوماسي. ففي عام 2010، وأمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، أطلق تحذيرًا واضحًا من أن إضاعة فرص السلام ستجعل حل الدولتين مستحيلاً، وأن العالم سيجد نفسه أمام واقع الفصل العنصري. وفي عام 2013، عندما أعيد إطلاق المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية برعاية أميركية، كان الملك في صلب الجهود لتأمين غطاء عربي داعم للمفاوض الفلسطيني، مؤكدًا أن الأردن لن يقبل بأي حلول تمس حقوق الشعب الفلسطيني أو تهدد الوضع التاريخي والقانوني للقدس.
أما السنوات التي تلت ذلك، فقد تميزت بتحركات أكثر حدة. ففي عام 2017، ومع قرار الإدارة الأميركية نقل سفارتها إلى القدس، كان صوت الملك عبد الله من أبرز الأصوات الدولية المعارضة، محذرًا من أن هذه الخطوة ستقوّض مسار السلام. خطابه في القمة الإسلامية الاستثنائية في إسطنبول في ذلك العام كان محوريًا، إذ دعا فيه إلى موقف إسلامي ودولي موحد لحماية القدس ودعم الفلسطينيين في سعيهم لإقامة دولتهم. وقد أكد مرة أخرى أن الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس ليست فقط التزامًا تاريخيًا، بل مسؤولية سياسية ودينية في مواجهة محاولات التهويد.
في عام 2018، خلال كلمة أمام البرلمان الأوروبي، طرح الملك عبد الله بجرأة أن الاعتراف بالدولة الفلسطينية ليس مجرد خيار سياسي بل ضرورة أخلاقية وقانونية، داعيًا أوروبا إلى أن تتحمل مسؤوليتها في نصرة العدالة. ومع تزايد موجات التطبيع العربي– الإسرائيلي في 2020، ظل الملك ثابتًا على موقفه بأن أي سلام حقيقي لن يتحقق دون قيام الدولة الفلسطينية. هذه المواقف أعادت تسليط الضوء على مركزية القضية الفلسطينية في الخطاب الأردني، وأبقت العالم أمام حقيقة أن تجاوز حقوق الفلسطينيين لن يجلب الأمن.
وفي العقد الثالث من القرن، ومع استمرار الجمود السياسي، تكثفت تحركات الملك عبدالله على الساحة الدولية. في عام 2021، خلال اجتماعات الأمم المتحدة، كرر الملك دعوته إلى الاعتراف العملي بالدولة الفلسطينية كطريق وحيد لإنهاء الصراع وضمان الأمن والاستقرار في المنطقة، محذرًا من أن البدائل تعني المزيد من العنف والتطرف. وفي سبتمبر/أيلول 2023، وأمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، شدد الملك عبد الله الثاني بوضوح على أنه لن يكون هناك أمن ولا استقرار في الشرق الأوسط من دون حل عادل للقضية الفلسطينية يقوم على أساس حل الدولتين، مؤكدًا أن تجاهل هذا الحق سيبقي المنطقة أسيرة دوامات الصراع والتوتر.
حتى جاء عام 2025، حين بدأت دول أوروبية عدة بالاعتراف الرسمي بدولة فلسطين، تزامن ذلك مع زخم سياسي ودبلوماسي ساهم الملك عبدالله في ترسيخه لسنوات. وجاء هذا التحول تتويجًا لجهود أردنية دؤوبة بالتنسيق مع الدول العربية والصديقة، ما أسفر عن تجاوز عدد الدول المعترفة بفلسطين أكثر من 150 دولة، وهو ما تجلى بوضوح في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة.
لقد كان حضور الملك في القمم العربية والمحافل الأممية وخطاباته أمام البرلمانات العالمية عناصر ضغط متراكمة أعادت صياغة الموقف الدولي تجاه فلسطين. وفي سبتمبر 2023، أكد في كلمته أمام الجمعية العامة أن الأمن والاستقرار في المنطقة لن يتحققا دون حل الدولتين، محذرًا من خطورة تجاهل هذا الحق.
يواصل الأردن بقيادة الملك عبد الله الثاني جهوده بزخم أكبر، ساعيًا إلى تحويل الاعتراف الدولي الواسع إلى خطوات عملية على الأرض، عبر دعم المؤسسات الفلسطينية والضغط لإنهاء الاحتلال ووقف الاستيطان. وهكذا، غدا الاعتراف بالدولة الفلسطينية ثمرة لمسيرة طويلة من العمل السياسي الأردني، ونقطة انطلاق لمرحلة جديدة تهدف لترسيخ فلسطين كدولة فاعلة في النظام الدولي.