عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    23-Jul-2025

السينما تصغي.. "احكيلهم عنا" يوثق المراهقة والهوية بلغة إنسانية

 الغد-إسراء الردايدة

 في السينما الوثائقية، لا يعاد تمثيل العالم بل يعاد الإنصات إليه. هناك، في تلك المساحة بين الواقع والعدسة، تنسج الحكايات الصغيرة التي تتوارى خلف العناوين الكبرى. وفي أولى تجاربها الطويلة، تدخل المخرجة الأردنية رند بيروتي هذا الفضاء الحي، بخطى حذرة وصدق لافت، لتصنع من تفاصيل الحياة اليومية سبع فتيات مهاجرات عملا إنسانيا شفافا عنوانه "احكيلهم عنا".
 
 
ليس من السهل أن يكون أول فيلم وثائقي طويل للمخرج. فالأمر يتطلب شجاعة مضاعفة، ليس فقط لأنك تسجل الحقيقة، بل لأنك تشاركها -كما هي- بحساسيتها، بتعقيداتها، وبصوت أصحابها الحقيقيين. وهذا ما تفعله بيروتي، التي اختارت أن تنصت للفتيات بدل أن تتكلم عنهن، وأن تصنع معهن الفيلم، لا عنهن فقط. النتيجة: عمل يوثق لا ليشرح، بل ليمنح الحضور قصصا تستحق أن تروى.
 
وفي ختام الدورة السادسة لمهرجان عمّان السينمائي الدولي (أول فيلم)، توج الفيلم الوثائقي الأردني "احكيلهم عنا" للمخرجة رند بيروتي بجائزتي لجنة التحكيم والجمهور ضمن فئة الأفلام الوثائقية العربية الطويلة.
هذا الإنجاز المزدوج يسلط الضوء على فيلم يمثل التجربة الطويلة الأولى لبيروتي، ويروي بصدق وإبداع حكايات سبع فتيات مراهقات نشأن بين ثقافتين. يجمع الفيلم بين رؤية فنية جريئة ومعالجة وثائقية إنسانية، ليقدم صوتا جديدا في سرد تجارب المهاجرين الشباب. 
رؤية فنية بمقاربة تشاركية 
تؤكد المخرجة بيروتي لـ"الغد" أنها تعشق السينما الوثائقية وتراها، قائلة "ليست فقط وسيلة لسرد القصص، بل مساحة للتفكير وطرح أسئلة صعبة عن العالم من حولنا". من هذا المنطلق، اختارت لفيلمها نهج التوثيق التشاركي الذي يقوم على العمل جنبا إلى جنب مع الشخصيات بدلا من فرض رؤية المخرج من الخارج.
تقول بيروتي "إن الأسلوب التشاركي كان الخيار الأنسب لهذا المشروع"، موضحة "لم يكن الهدف أن أقدم رواية من فوق أو عن بعد، بل أشتغل جنبا إلى جنب مع الفتيات، وأوفر مساحة آمنة لهن للتعبير. الأسلوب التشاركي ساعدنا على خلق علاقة قائمة على الثقة، وحضور الكاميرا كان جزءا من الحوار وليس عائقا له". 
هكذا أصبح وجود الكاميرا طبيعيا وسط يوميات الفتيات، ووسيلة لهن للتعبير الحر بدلا من أن يكون عامل ضغط. وقد شعرت المخرجة طوال هذه التجربة بأنه امتياز حقيقي أن يفتح الناس أبواب حياتهم لها في لحظات حساسة، مثل فترة المراهقة وتجربة اللجوء، الأمر الذي حملها مسؤولية أخلاقية كبيرة تتطلب الكثير من الإنصات والاحترام لخصوصية الشخصيات.
حكايات واقعية وأحلام مجسدة 
يتابع الفيلم حياة سبع فتيات مراهقات من أصول عربية وكردية ورومية (غجرية) في بلدة صغيرة بشرق ألمانيا (مدينة إيبرسفالد بولاية براندنبورغ)، حيث ترعرعن بين ثقافتين مختلفتين. من خلال قصصهن الفردية، يستكشف الفيلم موضوعات الهوية والاندماج والبحث عن الانتماء، كاشفا صورا متعددة الأبعاد لتجربة المراهقة في سياق الهجرة بعيدا عن القوالب النمطية. 
حرصت بيروتي على تجنب التعميم في تصويرها لهؤلاء الفتيات؛ فتكون مشروع الفيلم بشكل طبيعي عبر علاقة إنسانية وثيقة نشأت على مدار سنوات بينها وبين بطلات الفيلم. وتوضح المخرجة أنها لم تختر المشاركات بناء على خلفياتهن الثقافية مسبقا، بل لأنهن "أشخاص حقيقيون، يحملن أحلاما وتحديات، ويتمتعن بروح فكاهة وحيوية لافتة رغم الظروف الصعبة"، كما تعرفت إليهن عن قرب خلال عملها معهن. 
يقدم "احكيلهم عنا" أمثلة حية على التحديات التي تواجهها الفتيات المهاجرات في مجتمعهن الجديد. على سبيل المثال، تروي بيروتي قصة إحدى الشخصيات "ميرنا تحب الطهي وتحلم بامتلاك مقهى خاص بها. وعلى الرغم من التزامها واجتهادها، تم رفضها ببرنامج للتدريب المهني في مجال الطهي، بحجة أنها لن تتمكن من تذوق لحم الخنزير".
هذا النموذج من "التمييز الصامت" الذي واجهته ميرنا يعبر عن التحديات البنيوية التي قد تعترض فتيات من خلفيات مهاجرة حتى حين يكن واضحات الطموح ومفعمات بالشغف. هكذا يلتقط الفيلم قصصا عن صدام الثقافات أحيانا؛ مثل اصطدام التقاليد العائلية بمتطلبات المجتمع الجديد، أو مواقف يضطررن فيها للدفاع عن هويتهن الدينية والثقافية -كحجابهن أو عاداتهن- في مواجهة عدم تفهم المحيط. 
وعلى الرغم من هذه التحديات، يظهر الفيلم روحا من الصمود والأمل لدى الفتيات، وروابط صداقة متينة تجمعهن تشكل سندا عاطفيا في مواجهة صعوبات الاندماج.
الإبداع والتعبير كسلاح
لا يكتفي الفيلم برصد الواقع بأسلوب تقريري، بل يمنح الفتيات مساحة للتعبير الإبداعي عن أنفسهن. ابتكرت بيروتي بالتعاون مع المشاركات ورشا فنية شجعتهن على كتابة مشاهد وتمثيلها أمام الكاميرا، ما جعل الخط الفاصل بين الواقع والخيال رفيعا في بعض اللحظات. تندمج لقطات حياتهن اليومية مع مشاهد أخرى مفبركة بإبداعهن تجسد أحلامهن الجامحة ومخاوفهن الدفينة.
إحدى تلك اللحظات المميزة التي يذكرها الجمهور مشهد تقدم فيه لإحدى الفتيات "كعكة" رسم عليها صورة جواز سفر؛ في إشارة رمزية إلى حلمها بالحصول على جنسية أو هوية معترف بها. هذا النوع من التعبير الرمزي يحول الإبداع إلى فعل احتجاجي وشفائي في آن واحد، حيث تتحول السينما إلى وسيلة تمكين للفتيات للتعبير عن أنفسهن بشروطهن الخاصة.
النتيجة هي عمل وثائقي شاعري يمتزج فيه التوثيق بالدراما، ويعكس ببراعة عالم الفتيات الداخلي وهمومهن، لتصبح التجربة الشخصية مرآة تعكس قضايا اجتماعية أكبر.
كما تقول بيروتي "إن التجارب الفردية التي يحكيها الفيلم تعكس قضايا أكبر، مثل سياسات الاندماج والصراع الثقافي والضغط المجتمعي"، لكن هذه الأبعاد تظهر تلقائيا من خلال القصص من دون أن تُفرض بشكل مباشر، بل كنتيجة لحوار مستمر بين صانعة الفيلم والواقع. 
رحلة إنتاجية مليئة بالتحديات
استغرقت عملية تصوير "احكيلهم عنا" قرابة خمس سنوات، الأمر الذي شكل تحديا كبيرا لبيروتي على الصعيدين الإنساني والإنتاجي. في البداية، حرصت المخرجة على بناء جسور الثقة مع العائلات والفتيات قبل أن تدخل الكاميرا حياتهن؛ فكانت تزورهن باستمرار وتتعرف عليهن في غياب معدات التصوير. 
هذه الفترة التحضيرية أسست لعلاقة من القرب والاحترام المتبادل، بحيث عندما بدأت بيروتي التصوير بالفعل، كانت الأسر متقبلة ومرحبة بوجود الكاميرا في تفاصيل حياتها اليومية.  وتصف بيروتي امتنانها لهذه الثقة، بقولها إنها لم تأخذ سماح العائلات لها بأن تكون "جزءا من حياتهم اليومية" كأمر مفروغ منه، بل شعرت بمسؤولية كبيرة لكونها مؤتمنة على قصصهم.
على الجانب الإنتاجي، لم يكن تأمين التمويل واستمرارية المشروع أمرا سهلا، خاصة أن بيروتي تبنت مقاربة توثيقية طويلة الأمد وتشاركية غير تقليدية.
خلال خمس سنوات من العمل، تغيرت حياة الفتيات بطرق عديدة وتطورت ديناميكيات علاقاتهن، ما تطلب من المخرجة مرونة عالية في مواكبة التحولات المستمرة من دون فرض قالب سردي جاهز على الفيلم.
تشرح بيروتي أن متابعة سبع شخصيات مراهقة خلال تلك المرحلة العصيبة من العمر كانت بحد ذاتها مهمة شاقة؛ فكل فتاة لها مسارها الفردي المتقلب، وعلاقاتهن ببعضهن بعضا وببيئتهن تتغير مع نضوجهن.
ورغم صعوبة التخطيط المسبق لكل ذلك، استطاعت بيروتي أن تجمع خيوط الحكايات المتوازية في سرد سلس، مع إعادة تشكيل البناء السردي باستمرار تبعا لمجريات الحياة الواقعية.
كما كان لوجود فريق إنتاجي داعم أثر مهم في إنجاز هذا العمل؛ فقد تعاونت بيروتي مع المنتجة الأردنية جود كوع (شريكتها في تأسيس شركة شغب للإنتاج) منذ المراحل الأولى. وتصف المخرجة هذا التعاون بأنه أساسي، قائلة عن شريكتها "دعمها لي وللمشروع لا يقدر بثمن"، في إشارة إلى دور كوع المحوري في تأمين استمرارية المشروع رغم التحديات التمويلية واللوجستية.
عفوية الأداء واحترام الخصوصية
سعى الفيلم إلى الحفاظ على عفوية الفتيات أمام الكاميرا قدر المستطاع، إذ تؤكد بيروتي أنها لم ترغب بتلقين المشاركات ما يقلن أو كيف يتصرفن، بل أرادت أن يعكس الفيلم شخصياتهن الحقيقية من دون تصنع.
تقول المخرجة "حرصت على أن يكون ظهورهن عفويا قدر الإمكان. ما كنت أطلب منهن التحدث بلغة معينة، بل أشجعهن على التعبير بطريقتهن الخاصة"، ولعل الطرفة التي ترويها بيروتي في هذا السياق تكشف مدى الأجواء الطبيعية أثناء التصوير؛ إذ تضيف، ضاحكة، أن التوجيه الوحيد الذي اضطرت لتكراره هو طلب إطفاء الموسيقا عندما كانت الفتيات يشغلن الأغاني ويبدأن بالغناء طوال الوقت! وقد نبهتهن مازحة بأنها لن تتمكن لاحقا من دفع حقوق تلك الأغاني إذا ظهرت في الفيلم. هذا التوجيه الطريف أصبح جزءا من ذكريات التصوير المشتركة، ولم يُخل بأجواء الصداقة التي سادت بين المخرجة وبطلات فيلمها.
مع انتهاء مرحلة التصوير ودخول الفيلم مرحلة المونتاج، واجهت بيروتي تحديا من نوع آخر. كان عليها انتقاء أبرز اللحظات من مئات الساعات المصورة، وترتيب قصص الفتيات بشكل يبرز الروابط المشتركة بينها من دون الإخلال بتفرد كل حكاية. 
تصف بيروتي مرحلة التحرير بأنها طويلة ومعقدة، نظرا لتعدد الشخصيات وتشابك مساراتها. عملت جنبا إلى جنب مع فريق المونتاج على خلق توازن دقيق بين الخطوط المختلفة، لضمان ألا تطغى قصة إحدى الفتيات على الأخرى، وأن يحافظ الفيلم في مجمله على إيقاع متناغم يجمع بين اليومي الحميمي والاجتماعي العام.
وإلى جانب القرارات الفنية، كان على بيروتي اتخاذ قرارات أخلاقية حيال خصوصية المشاركات. فبعض المشاهد أو القصص كانت شديدة التأثير، لكنها تتوغل في تفاصيل شخصية جدا شعرت المخرجة بأنها أمانة ولا يصح مشاركتها من دون تحفظ. لذا آثرت استثناء تلك الأجزاء من النسخة النهائية احتراما لخصوصية الفتيات، حتى لو كانت مواد مصورة قوية. وتشدد بيروتي في هذا الصدد "على أن احترام خصوصيتهن كان دائما أولوية"، ولديها تفوق الرغبة في عرض مادة مؤثرة قد تجذب الانتباه لكنها تخترق الحدود الشخصية للمشاركات. 
صوت إنساني وصدى مجتمعي
يحمل عنوان "احكيلهم عنا" نداء واضحا: إيصال الصوت وكسر الصمت، فهو دعوة لرواية القصص من منظور أصحابها الحقيقيين. تقول بيروتي "هو نداء بأن يُسمَع الصوت، ولإعادة سرد القصص من وجهة نظر أصحابها". أما "هم" في العنوان، فليسوا بالضرورة جهة محددة؛ بل كل من لا يسمع أو لا يرى، سواء أكانوا مؤسسات، عائلات أو مجتمعات.
هذه الرغبة في إيصال التجربة تترجم إلى فعل سينمائي صادق، يمزج بين الإنساني والاجتماعي في قالب فني مؤثر. وقد طمحت بيروتي لأن يكون الفيلم أداة لحوار حقيقي بين الشباب وأسرهم ومحيطهم، لا مجرد عرض عابر. وتوضح "هدفي مش بس ينشاف الفيلم، بل أن يكون محفزا للنقاش، وخلق مساحات آمنة تشبه المساحة اللي حاولنا خلقها أثناء التصوير".
استطاعت رند بيروتي بعدسة صادقة ومتفهمة أن تنقل لنا تفاصيل عالم الفتيات المهاجرات وهمومهن وأحلامهن، كاسرة بذلك الكثير من الصور النمطية. ويعد "احكيلهم عنا" تجربة إنسانية قبل أن يكون فيلما وثائقيا؛ صوت من لا يُسمعون عادة، وصورة لحيوات نادرا ما تروى بهذا القدر من الحميمية والاحترام. فوزه بجائزتي لجنة التحكيم والجمهور يؤكد قدرته على التأثير وملامسة الوجدان، وتقديم نموذج لما يمكن أن تفعله السينما حين تُصغي وتُشرك وتُصدّق.