الدستور
«بعد مشوار طويل، صار الحلم حقيقة، مبارك لكل الأردنيين الذين آمنوا بالحلم»، الحسين بن عبد الله الثاني.
تُعتبر رواية «لا تقولي إنك خائفة» من الأعمال الأدبية الاستثنائية التي تجمع بين عمق التأثير وجمال السرد، حيث تروي ملحمة حياة العدّاءة الصومالية سامية يوسف عمر. هذه الشابة التي وُلدت في أحضان الفقر المدقع، وسط أجواء بلد تمزقه ويلات الحرب والصراعات المستمرة. وبالرغم من المعوقات الجمّة والتحديات الهائلة التي اعترضت مسيرتها - بدءًا من الرفض المجتمعي القاطع لفكرة ممارسة الفتيات للجري، مرورًا بالتهديدات المباشرة بالقتل، وانتهاءً بالنقص الحاد في التجهيزات الرياضية والبرامج التدريبية المتخصصة، فضلًا عن سوء التغذية والحرمان من الاحتياجات الأساسية - تمكنت من تجاوز كافة هذه العقبات بإرادة فولاذية، وحققت إنجازًا تاريخيًّا بتمثيل بلدها في دورة الألعاب الأولمبية في بكين عام 2008.
خاضت سامية منافسة سباق 200 متر؛ حيث وجدت نفسها تتنافس مع نجمات العدو اللواتي كانت تتطلع إليهن كمثال يُحتذى به، وتُعلق صورهن على جدران غرفة نومها كمصدر إلهام يومي. وقفت بجانبهن على خط الانطلاق، تتأملهن بنظرات مليئة بالإعجاب والدهشة، بينما كنّ ينظرن إليها بعيون تحمل الاستخفاف والدونية. كان التباين صارخًا وواضحًا للعيان في جميع النواحي؛ فالفجوة شاسعة من حيث جودة المعدات والتجهيزات الرياضية، والبنية الجسدية المتطورة، والدعم الفني والتقني المتقدم. كانت تركض مرتدية ملابس رياضية بالية ومهترئة، وحذاءً مستعملًا قديمًا، وتفتقر لوجود مدرب متخصص أو أي نوع من أنواع الدعم التقني أو الطبي.
عندما انطلق السباق، جاءت سامية في المرتبة الأخيرة بفارق زمني كبير ومسافة واضحة عن المتسابقات الأخريات. لكن ما تلا ذلك كان أكثر قيمة وأعظم معنى من أي ميدالية؛ إذ وقف الجمهور وصفق لها تصفيقًا حارًّا وحماسيًّا، كتعبير صادق عن تقديرهم العميق لشجاعتها النادرة، وإعجابهم بإصرارها الاستثنائي وعزيمتها التي لا تنكسر في مواجهة أقسى الظروف.
تستمر الرواية في توثيق مسيرة سامية، وهي رحلة معقدة نُسِجَت خيوطها من الأمل والتحدي والمعاناة في آن واحد؛ حيث سعت للهجرة إلى القارة الأوروبية بحثًا عن فرص أفضل ومستقبل أكثر إشراقًا. غير أن هذه الرحلة انتهت بنهاية مأساوية مؤلمة، عندما تحطم القارب المتهالك والضعيف الذي كان يحملها عبر المياه، مما أدى إلى فقدان بطلتنا الشجاعة إلى الأبد. لكن الكاتب الإيطالي المبدع جوزيبي كاتوتسيلا اتخذ قرارًا فنيًّا واعيًا بأن يختتم قصته بطريقة مختلفة ومغايرة للواقع المؤلم؛ حيث صوّر يدًا تنقذها من الغرق وتنتشلها من الموت، وذلك لأنه آمن بضرورة انتصار الحلم والأمل على المأساة والألم.
استحضرت هذه القصة المؤثرة وتذكرتها في خضم الاحتفالات الجماهيرية الواسعة بالإنجاز التاريخي والاستثنائي الذي حققه منتخبنا الوطني لكرة القدم. وعلى الرغم من أن الفجوة كبيرة والمقارنة قد تبدو غير متكافئة، فالأردن بلا أدنى شك يتمتع بظروف وإمكانيات أفضل بكثير من الصومال، إلا أن نقطة التشابه الجوهرية بين القصتين تتجلى في حقيقة أساسية مهمة: أن الإنسان يمتلك القدرة الكامنة على تحقيق التفوق والتغلب على قيود الموارد المحدودة والإمكانيات المتواضعة من خلال العزيمة والإصرار والإرادة القوية.
هذه هي القصة الملهمة للأردن منذ نشأته؛ فهو وطن يمتلك موارد محدودة، ويقع ضمن مساحة جغرافية صغيرة نسبيًّا، ويتموضع في موقع تحيط به تحديات معقدة ومتشابكة، ومع كل ذلك تمكن الأردن من صياغة قصة نجاح استثنائية في المنطقة، متفوقًا على العديد من الدول التي تتمتع بثروات طبيعية وموارد اقتصادية تفوق إمكانياته بأضعاف مضاعفة.
رحلتنا الطموحة لا تتوقف عند هذه المحطة التاريخية المهمة المتمثلة في مشاركتنا الأولى في كأس العالم لكرة القدم، بل تُعتبر هذه المشاركة محطة محورية ونقطة انطلاق مهمة في رحلة الألف ميل الطويلة والشاقة، التي نتطلع ونأمل - بتوفيق من الله عز وجل ومشيئته - أن تتكلل نهايتها بالنجاح والسعادة، وذلك من خلال تحقيق مشاركة فعّالة ومؤثرة، وتقديم أداء مشرف ومميز يرقى إلى مستوى تطلعاتنا العالية، ويعكس بصدق وأمانة طموحاتنا الكبيرة وأحلامنا المشروعة كشعب أردني فخور بهويته وانتمائه.
أتطلع بشغف وحماس كبيرين إلى أن تتحول مشاركة منتخبنا الوطني إلى فرصة ذهبية لتعزيز وترسيخ مشاعر الفخر الوطني العميق في نفوس أبناء الشعب الأردني، وذلك من خلال استراتيجية شاملة ومدروسة تهدف إلى إشراك المواطن الأردني بشكل فعّال ومباشر ليصبح شريكًا أصيلًا ومساهمًا حقيقيًا في هذا الحلم الجماعي. يمكن تحقيق ذلك من خلال تنظيم حملة وطنية شاملة ومتكاملة لدعم ومساندة المنتخب الوطني في مشواره؛ حيث إن هذا النهج سيُشعر كل مواطن أردني بأنه جزء لا يتجزأ من هذا الفخر الوطني الجماعي، مما سيساهم في تعزيز قيم الانتماء العميق للوطن وتقوية أواصر الوحدة الوطنية والتماسك المجتمعي.
من المؤكد أن الدور الأكبر في هذا المشروع الطموح سيقع على عاتق الشركات الوطنية الكبرى في المملكة، نظرًا لإمكانياتها المالية الكبيرة وقدرتها على التأثير والمساهمة بشكل فعّال. لكن يمكن تعزيز وتقوية هذا الجهد المؤسسي الكبير من خلال تنفيذ مبادرات مجتمعية، مثل تخصيص دينار من راتب كل موظف راغب في المشاركة، تقابله مساهمة مماثلة بدينار من الشركة أو المؤسسة التي يعمل بها، أو فتح أبواب التبرعات أمام المواطنين الراغبين في المساهمة. كما يمكن تنظيم حملات تبرعات منظمة ومدروسة في الجامعات والمدارس، مع منح الطلبة المشاركين شهادة تقدير رمزية مميزة تحمل اسم «صديق المنتخب»، في خطوة رمزية ذات مغزى عميق تهدف إلى تعزيز روح الانتماء والولاء الوطني، وتحويل فعل المشاركة إلى مصدر فخر واعتزاز وطني حقيقي يساهم فيه الجميع دون استثناء.
الفكرة التي أطرحها هنا ليست ابتكارًا عبقريًّا فريدًا، بل هي منهجية مجربة ومختبرة سبقتنا إلى تطبيقها والاستفادة منها العديد من الدول عندما حظيت منتخباتها الوطنية بشرف المشاركة في المحافل الدولية الكبرى. ومن أروع وأجمل هذه التجارب الملهمة على الإطلاق، تجربة منتخب آيسلندا الاستثنائية عندما تأهل لأول مرة في تاريخه إلى بطولة كأس الأمم الأوروبية (يورو 2016) التي أقيمت في فرنسا.
كان تعداد سكان آيسلندا آنذاك لا يتجاوز 300 ألف نسمة، ولم يكن لديها دوري محترفين أو بنية تحتية رياضية متقدمة، ولم تتمتع بميزانيات مالية ضخمة أو استثمارات رياضية، كما أنها افتقرت إلى وجود لاعبين مشهورين. لكنها كانت تمتلك شيئًا أكثر قيمة من كل هذه الإمكانيات المادية: شعب مُتَّحِد ومتماسك يقف بكل قوة وعزيمة خلف منتخبه الوطني ويؤمن بقدرته على تحقيق المعجزات. فتحت آيسلندا باب التبرعات لدعم ومساندة المنتخب الوطني ماليًّا ومعنويًّا، وكانت النتيجة قصة إلهام حقيقية وملحمة إنسانية رائعة تجاوزت حدود كرة القدم لتصبح رمزًا للوحدة الوطنية والإرادة الجماعية.
عند انطلاق البطولة الأوروبية، سافر أكثر من 10% من سكان آيسلندا - إلى فرنسا لتشجيع ومؤازرة منتخبهم الوطني في هذا الحدث التاريخي المهم. لم يكن هؤلاء المشجعون من طبقة الأثرياء، بل على العكس تمامًا، فقد باع بعضهم سياراتهم الخاصة لتوفير تكاليف السفر، بينما لجأ آخرون إلى بيع منازلهم أو ممتلكاتهم الثمينة، وهناك من اضطر للاستدانة، وكل ذلك من أجل هدف واحد نبيل وسامي: أن يكونوا بجانب فريقهم يؤازرونه ويشجعونه في هذه اللحظة التاريخية الفارقة التي حلم بها وتطلع إليها كل آيسلندي.
كان مدرب الفريق الوطني الآيسلندي يمارس مهنة طب الأسنان بدوام جزئي كمصدر رزق إضافي لتأمين احتياجاته المعيشية، كما أن معظم لاعبي المنتخب كانت لديهم مهن ووظائف بسيطة ومتواضعة خارج أسوار الملاعب لكسب قوت يومهم، فلم يكونوا محترفين متفرغين بالمعنى الكامل للكلمة. لكن، وبفضل الدعم الجماهيري استطاع المنتخب الآيسلندي أن يفاجئ العالم بأسره ويحقق ما لم يكن متوقعًا أو محسوبًا؛ إذ تمكن من هزيمة المنتخب النمساوي، كما نجح في إطاحة وإقصاء منتخب إنجلترا العريق صاحب التاريخ الكروي الطويل من البطولة بشكل مفاجئ ومذهل، وبلغ الدور ربع النهائي محققًا إنجازًا تاريخيًّا باهرًا لن ينسى.
مع نهاية كل مباراة من مباريات المنتخب الآيسلندي، كان الجمهور الآيسلندي المتواجد في المدرجات يؤدي بصوت واحد وبحماس تصفيقة الفايكنغ الشهيرة والمميزة، في حين كانت عدسات الكاميرات تلتقط وتوثق الدموع الحقيقية والصادقة التي تنهمر وتتساقط في عيون اللاعبين والمشجعين على حد سواء. كانت هذه اللحظات النادرة والاستثنائية لحظات صادقة ونقية من أعماق القلب، تختصر وتجسد بشكل مثالي المعنى الحقيقي والعميق للانتماء الوطني الأصيل، وتُظهر قوة الإرادة الجماعية وتحقيق النجاح على كل ما كان يُظن أنه من قبيل المستحيل أو الخيال.
لقد أثبت منتخبنا - تمامًا كما أثبتت من قبل العدّاءة الصومالية سامية يوسف، وكما أثبت المنتخب الآيسلندي في تجربته الاستثنائية - أن المستحيل يمكن أن يصبح ممكنًا وقابلًا للتحقيق، وذلك عندما تتوفر وتجتمع: الإيمان العميق بالهدف، والإرادة الصلبة القوية، والدعم الجماهيري الحقيقي والمتواصل.
طلبي بسيط ومتواضع من أعماق القلب: اجعلونا - نحن الشعب الأردني بكل فئاته - جزءًا لا يتجزأ وشريكًا أصيلًا في هذا الحلم الجميل، حلم النشامى الذين يحملون اسم الأردن عاليًا في أعرق وأكبر البطولات العالمية.