عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    20-Oct-2025

رسالة رمزية*جمال الكشكي

 الغد

من بين وجع السنين الطويلة خرج الأسير الفلسطيني نادر صدقة إلى النور، متكئا على ذاكرة السجن الثقيلة، متشحا برمزية نادرة في التاريخ الفلسطيني الحديث، كان الإفراج عنه هذا الأسبوع ضمن المرحلة الأولى من صفقة التبادل بين حركة حماس وإسرائيل، بعد واحد وعشرين عاما من الأسر، لحظة تتجاوز شخصه إلى ما هو أبعد، فقد بدا الأمر كما لو أن التاريخ نفسه يفتح نافذة صغيرة، كي يتأمل في المرآة وجها لم يره من قبل.
 
 
نادر صدقة، المولود عام 1977 على سفوح جبل جرزيم في نابلس، ينتمي إلى الطائفة السامرية، تلك الطائفة الصغيرة التي لم يتجاوز عدد أفرادها الثمانمائة، لكنها تحمل أقدم ما تبقى من ملامح الكنعانيين واليهود القدماء في آن، درس التاريخ والآثار في جامعة النجاح الفلسطينية، وانخرط خلال دراسته في جبهة العمل الطلابي التقدمية، الذراع الطلابية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، قبل أن يلتحق بكتائب الشهيد أبو علي مصطفى مع اندلاع الانتفاضة الثانية، مؤمنا بأن الحرية تنتزع، ولا تمنح.
كان نادر، السامري الوحيد في سجون الاحتلال، حالة أربكت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، فهي، وإن اعتادت مواجهة فصائل فلسطينية متنوعة، لم تعرف من قبل أسيرا ينتمي إلى طائفة يعتبرها الإسرائيليون جزءا من تراثهم الديني، لهذا رفضت إسرائيل مرارا إدراجه في صفقات تبادل سابقة، خشية أن يتحول خروجه إلى نفي صريح لروايتها التاريخية التي تدعي احتكار الانتماء إلى الأرض والنص والمقدس.
لكن في لحظة السياسة والحرب، حين تتغير الحسابات وتعاد صياغة التوازنات، قبلت إسرائيل بإطلاق سراحه، مع اشتراط إبعاده خارج فلسطين، في إشارة إلى أن رمزيته ما تزال تمثل قلقا لروايتها.
إبعاده كان فعل خوف أكثر مما هو شرط تفاوض، كأن وجوده في نابلس بعد الحرية يذكرها بما تحاول إنكاره، أن فلسطين ليست هوية دينية، إنما هوية أرض وجذر وحق متوارث.
الطائفة السامرية، التي تسكن جبل جرزيم قرب نابلس، ومدينة وحولون، قرب تل أبيب، تعتبر نفسها الامتداد الأصيل لبني إسرائيل القدماء، وتؤمن بخمسة أسفار فقط من التوراة، مكتوبة بخط عبري قديم على جلد غزال، يتحدث أبناؤها العربية والعبرية، ويعيشون على تماس يومي مع المجتمع الفلسطيني، ويشاركونه أفراحه وأتراحه، ويعلنون في كل مناسبة عن انتمائهم إلى أرضهم لا إلى دولة الاحتلال.
من هنا يصبح نادر صدقة أكثر من مجرد أسير محرر، إنه مرآة رمزية تكشف عن تنوع الهوية الفلسطينية، التي لم تتشكل من لون واحد، بل من فسيفساء أعراق ومعتقدات تشترك في وجع واحد وأفق واحد، فحين يخرج سامري من سجون الاحتلال مقاتلا تحت راية الجبهة الشعبية، فإن ذلك يعني أن النضال الفلسطيني تجاوز كل محاولات العزل الديني والإثني، وقد سعت إسرائيل إلى ترسيخها عبر عقود طويلة.
وقد يرى البعض في نادر صدقة بذرة أيقونية، يمكن أن يعيد الفلسطينيون عبرها طرح سؤال الدولة القادمة، هل ستكون دولة لكل مواطنيها أديانا وأعراقا، كما حلم بها رواد الفكرة الوطنية الأولى، أم أن الانقسام والدمار سيؤجلان هذا الحلم مرة أخرى.
في الواقع يحمل هذا الوجه السامري المحرر إمكانا رمزيا جديدا لإحياء فكرة الدولة الواحدة، أو ثنائية القومية، لا من باب التسوية السياسية فحسب، إنما من باب الفلسفة الوجودية لفلسطين نفسها، تلك الأرض التي ولدت فيها الديانات وتنازعت فيها المرويات.
من جبل جرزيم إلى غزة، ومن القدس إلى الخليل، يقف الفلسطيني اليوم أمام العالم ليقول إن قضيته ليست صراعا بين أديان، بل بين احتلال وحرية، بين إقصاء وتعايش.
ربما تكون رمزية نادر صدقة بداية لخطاب جديد يقدمه الفلسطينيون للعالم، في لحظة يتردد فيها هتاف الحرية لفلسطين في شوارع عواصم العالم، فبينما تتبدل موازين القوة، ثمة حاجة إلى رموز إنسانية تتحدث بلغة يفهمها العالم، رموز لا تأتي من ميادين السياسة وحدها، إنما من قصص البشر الذين عاشوا ما يكفي من القهر، ليصبحوا شهودا على المعنى.
إن قصة نادر صدقة تعيد الاعتبار لفكرة أن فلسطين فكرة جامعة، لا يمكن احتكارها باسم الدين أو الطائفة أو الفصيل، وأن الذاكرة المشتركة تصنع هوية أعمق من كل الانقسامات، وحين يعود الفلسطينيون إلى هذا الوعي، قد يجد العالم نفسه أمام الصورة التي حاولت إسرائيل طمسها منذ عام 1948، أن في قلب أرض كنعان، التي شهدت معظم الحروب ومر وعاش على أرضها الأنبياء، ما تزال بذرة التعايش فيها ممكنة، وأن الحرية،كما التاريخ، لا تعترف إلا بمن يملك الشجاعة ليدفع ثمنها.
بهذه الرمزية يصبح نادر صدقة ليس مجرد اسم في قائمة الأسرى المحررين، إنما رسالة مفتوحة إلى العالم، تقول إن فلسطين القادمة يمكن أن تكون وطنا للجميع، ليس على أنقاض أحد، إنما على ذاكرة مشتركة، تعيد للحياة معناها فوق أرض لم تتعب من انتظار السلام.