لقاءات بعد الموت.. حين يتحوّل الحزن إلى سلعة*إسماعيل الشريف
الدستور
تحويل العمل والطبيعة والإنسان إلى سلع قابلة للتداول هو فعل مدمّر، لأنه يحوّل جوهر الحياة البشرية إلى مادة للبيع- الفيلسوف الاقتصادي المجري كارل بولاني.
أطلق نجم قناة ديزني السابق كالوم وورذي تطبيقًا يحمل اسم 2wai، يتيح للمستخدمين رفع مقاطع مصوّرة لأشخاص آخرين، ليقوم الذكاء الاصطناعي بإنشاء نسخة رقمية (أفاتار) لهم شخصية افتراضية غير حقيقية تُحاكي شكلهم وصوتهم وطباعهم وملامح شخصياتهم. تقوم الفكرة الأساسية للتطبيق على تحويل الأحبّة إلى روبوتات دردشة ثلاثية الأبعاد تفاعلية، بما يسمح بما يشبه لقاءات بعد الموت.
وينشر التطبيق إعلانات تروّج لفكرة تخليد ذكرى شخص عزيز عبر تحويله إلى نموذج ذكاء اصطناعي. ففي أحد الإعلانات يظهر وورذي متحدثًا إلى أفاتار يحمل اسم «أمي»، قائلاً له: «أنت تستطيع، خطوة بخطوة»، بينما يخبر الجمهور أن التطبيق يتيح للمستخدمين الحصول على الدعم العاطفي في اللحظة التي يحتاجونها. وفي إعلان آخر، تظهر امرأة حامل تستخدم التطبيق بعد وفاة والدتها وولادة طفلها، ليقوم الأفاتار بسرد «قصة ما قبل النوم» التي كانت الأم الراحلة ترويها لحفيدها. ثم نرى الطفل يكبر ويستمر في استخدام التطبيق، ليظهر في عمر الثلاثين وهو يعرض صورة أشعة لطفله الذي لم يولد بعد على أفاتار جدّته المتوفاة، التي تهنّئه بقدومه.
هذا أكثر بشاعة من كل ما شاهدناه سابقا، إذ يتحوّل الحزن إلى فرصة للتكسب والاستثمار التجاري البارد.
تحاول الشركات العاملة في مجال الذكاء الاصطناعي إقناعنا بأن هذه الروبوتات حقيقية، وأن الإنسان ليس سوى شكل وصوت بلا روح. فهي تشجّع المستخدمين على النظر إلى روبوتات المحادثة بوصفها كائنات حيّة تمتلك مشاعر حقيقية، ليبقوا على المنصة مدفوعين بعاطفة لا تنطفئ.
إن مثل هذه التطبيقات المتسارعة في النمو تهدّد بنسف إنسانيتنا من جذورها. فكيف سيبدو مجتمعٌ يبدأ بالنظر إلى برامج الكمبيوتر بوصفها بشرًا؟ وكيف سينعكس ذلك على حقوق الإنسان، والحرية، والتصويت، والكرامة الإنسانية، والعلاقات الإنسانية، وحتى على الطريقة التي ننظر بها إلى أنفسنا؟ وفي غضون سنوات قليلة، ستعيش هذه الروبوتات بيننا؛ تمشي في الشوارع وتستوطن منازلنا، لتتحوّل علاقاتنا معها إلى علاقات تبدو حقيقية، فنبدأ بالنظر إليها بوصفها بشرًا كاملي الوجود.
ومن الواضح أن جزءًا كبيرًا مما تقدّمه تقنيات الذكاء الاصطناعي اليوم يقوم على مساعدة الإنسان في التهرب من المشاعر السلبية:
لا تريد أن تشعر بحزن فقدان من تحب؟ إليك تطبيقًا يصنع لك أفاتارًا يقنعك بأنه لم يرحل.
تريد أن تصبح كاتبًا؟ دع الذكاء الاصطناعي يكتب بدلًا عنك.
تريد زوجة مطيعة جميلة أو صديقًا تابعًا لك؟ هناك تطبيق جاهز لأجل ذلك.
هل تخشى أن تُرفَض؟ ستجد روبوتات لن ترفضك أبدًا.
إنهم يتلاعبون بنا لنعتقد أننا أقل بكثير مما نحن عليه؛ يسرقون إنسانيتنا ومشاعرنا ونجاحاتنا وفشلنا وتجارب حياتنا كاملة، ليصبحوا هم أصحاب التريليونات.
ومن المؤكد أن هذه التطبيقات لن تزيد ذكاءنا، بل ستجعلنا أغبياء وفارغين ومنفصلين عن الواقع وعن ذواتنا؛ طيّعين خاضعين بلا إرادة ولا مشاعر، غارقين في توافه الأمور، بينما يسيطرون علينا ويتحكمون بمصائرنا ويسرقون أوطاننا وخيراتنا.
وإن لم يُقنعك كلامي وقرّرت إلغاء اشتراكك، سيخيّرك هذا التطبيق اللعين بين الاستمرار في الدفع أو قتل من تحب؛ إذ إنك بإلغائك الاشتراك لن تستطيع التفاعل مجددًا مع من تحب فهو ميت في الحقيقة وستكون قد قتلت نسخته الاصطناعية كذلك. فمن ذا الذي سيجرؤ على ذلك؟