عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    13-Oct-2025

ذاكرة الألم*جمال الكشكي

 الغد

لم تكن ألمانيا بعيدة عن أصداء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وبدت دولة أوروبية متماسكة خلف موقفها التقليدي المؤيد لإسرائيل، فهي حتى الآن من الدول القليلة التي لم تعترف رسميا بدولة فلسطينية، متمسكة بما تعتبره "الطريق التفاوضي نحو حل الدولتين" وهو المبدأ الذي تعلن من خلاله رفضها لأي اعتراف أحادي أو رمزي بالدولة الفلسطينية، خارج إطار تفاوضي شامل.
 
 
‎خلف هذا الموقف الرسمي الملتزم ببرود الدبلوماسية، تتحرك ألمانيا على صفيح اجتماعي وسياسي ساخن، فالحرب على غزة هزت وجدانها وأعادت إشعال ذاكرة الألماني المنقسمة بين الذنب والضمير، بين إرث النازية الذي حملته الدولة الحديثة كعبء أبدي، وبين مبادئ الحداثة وحقوق الإنسان التي بنت عليها مشروعها الديمقراطي بعد الحرب العالمية الثانية.
‎مع كل قذيفة تسقط في غزة، يتشظى الداخل الألماني أكثر، فقد تحولت شوارع برلين وهامبورج وميونخ إلى ساحات مواجهة رمزية بين متظاهرين يرفعون العلم الفلسطيني ويطالبون بوقف الإبادة، وآخرين يلوحون بعلم إسرائيل، تحت شعار «أمنها مسؤوليتنا التاريخية»، وبين هذين الطرفين، تقف الحكومة الألمانية حائرة أمام معادلة مستحيلة: كيف تدافع عن إسرائيل من غير أن تبدو شريكة في حرب، تخرق كل ما نادت به أوروبا من قيم إنسانية؟
‎تظاهرات غزة في ألمانيا كشفت جرحا لم يلتئم منذ توحيد البلاد عام 1990، فالتفاوت الاجتماعي بين الشرق والغرب ما زال قائما، وتعزز مع الأزمات الاقتصادية وموجات الهجرة، حتى جاءت حرب غزة لتعيد طرح أسئلة الهوية والانتماء، ووجد الألمان أنفسهم في مواجهة الماضي، ماضي البشرية مع فكرة الذنب الجماعي والعدالة المفقودة.
‎السلطات الألمانية سجلت ارتفاعا حادا في حوادث معاداة السامية منذ اندلاع الحرب، وتزايدت شكاوى المسلمين والعرب من التضييق الأمني ومنع التظاهرات المؤيدة للفلسطينيين، وفي قلب هذا التوتر، يعلو صوت اليمين الشعبوي ممثلًا في حزب البديل من أجل ألمانيا،  الذي تصاعد حضوره في استطلاعات الرأي حتى تجاوز بعض الأحزاب الحاكمة، وهو صعود يعبر عن خوف خفي من فقدان السيطرة على المشهد الاجتماعي، وعن ميل متزايد إلى الانغلاق القومي.
‎بعض الشخصيات اليهودية البارزة في ألمانيا، مثل وزيرة التعليم كارين روبن المنحدرة  من أصول يهودية، صرحت بأنها ستهاجر إلى إسرائيل أو الولايات المتحدة إذا وصل حزب البديل إلى الحكم، وهو تصريح يعكس مدى القلق داخل الجالية اليهودية من الموجة القومية الجديدة التي تعصف بالبلاد.
‎في المنتديات والجامعات والمقاهي يدور نقاش عاصف، حول ما إذا كانت ألمانيا تدفع ثمن ماضيها مرتين: مرة حين دفعت كلفة المحرقة لليهود، ومرة أخرى حين تتهم  بالتواطؤ في صمت على محرقة غزة، وقد زادت تصريحات معظم المسؤولين الكبار حين قالوا إن «أمن إسرائيل جزء من مصلحة ألمانيا القومية»، وهي عبارة قرأها كثيرون بوصفها اعترافا ضمنيا بأن إسرائيل تنفذ أعمالا عسكرية لا تستطيع أوروبا تنفيذها باسمها، وهي ترفع لواء القيم والحقوق.
‎تبدو مبادرة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لوقف الحرب في غزة، ومفاوضات شرم الشيخ التي قادها الدور المصري، طوق نجاة نفسي لألمانيا أكثر منها حلا سياسيا، فبرلين المنهكة من حرب أوكرانيا وتداعيات الطاقة والاقتصاد، وجدت نفسها أمام حرب أخطر تمس جوهر ذاكرتها الأخلاقية، وتعيدها إلى امتحان الإنسانية ذاته.
‎هطلت أمطار غزة الدموية على رأس أوروبا الوسطى، فاختلطت بمياه الراين وصوت الكنائس وأجراس الذاكرة، وما يجري في غزة أيقظ مأساة الفلسطينيين وأعاد انشطار ألمانيا نفسها، بين ماضٍ لا ينتهي وحاضر لا يعرف كيف يتطهر منه.
‎الحرب الإسرائيلية تدور في غزة وفي الضمير الألماني معا، حيث يتنازع الذنب والتبرير، الأخلاق والمصلحة، الذاكرة والمستقبل، حرب رمزية لا ترى على الخرائط، لكنها تخاض في كل شارع وبيت ومقهى ألماني، وفي كل قلب يحاول أن ينجو من تاريخ لم ينس بعد.
‎ومع إعلان وقف إطلاق النار، حل صمت ثقيل على شوارع ألمانيا، لكنه لم يكن صمتا مريحا، بل كان صمتا متوترا، يثقل الضمائر ويعيد قراءة التاريخ من جديد، فالتهدئة لن تمحو الصور المروعة التي طبعت ذاكرة الألمان خلال الحرب، ولن تخفي  القلق المتزايد لدى الجاليات الفلسطينية واليهودية، ولا الخوف من أن يعود شبح الانقسام الاجتماعي والسياسي ليطغى على المشهد.
‎في الجامعات والمقاهي، ظل النقاش محتدما، حيث أعاد المثقفون والسياسيون تعريف مفهوم الأخلاق والمصلحة: كيف توازن ألمانيا بين دعمها لإسرائيل وبين التزامها بالقيم الإنسانية، وكيف تترجم شعارات "الأمن والمواطنة والعدال" إلى أفعال ملموسة في الداخل والخارج. 
‎وظهرت مبادرات مجتمعية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من جسور الثقة بين المهاجرين والألمان، من جمعيات ثقافية ومؤسسات تعليمية وبرامج حوارية، لكنها جاءت وكأنها محاولة لالتقاط رماد حرب لم تنطفئ نيرانها في الوجدان.
‎على المستوى السياسي، حاولت الحكومة الألمانية استخدام التهدئة لتخفيف الضغوط الداخلية والخارجية، لكنها وجدت نفسها أمام تحديات مستمرة، فحزب البديل الشعبوي يستمر في استغلال مشاعر الخوف والألم، والجالية اليهودية ما زالت تتنقل بين اليقظة والقلق، فيما الجالية العربية تبحث عن مساحة أمان ومكان لممارسة حقوقها دون تمييز.
‎وبين مشهد التهدئة السياسي والإنساني، أدرك الألمان أن الحرب لم تنتهِ في الضمير، وأن ذاكرة الألم والحاجة إلى العدالة ستظل تطفو على السطح، تعيد طرح أسئلة عن الهوية والانتماء والضمير، وتثبت أن ألمانيا لا تزال منقسمة داخليا، بين مسؤوليتها التاريخية تجاه اليهود وبين التزامها بالقيم العالمية تجاه الفلسطينيين، وبين ماضيها الذي لا ينسى وحاضرها الذي يسعى إلى التطهر من آثار التاريخ.