الغد-عزيزة علي
وقع الشاعر والكاتب عبدالله عيسى كتابه "أورساليم القدس 2000"، الصادر عن دار اليازوري للنشر في عمان، وذلك خلال حفل أُقيم في مقر رابطة الكتاب الأردنيين.
جاء الحفل بالتعاون بين الرابطة ودار النشر، وشارك فيه كل من: الشاعر يوسف عبد العزيز، والناقد الدكتور حسن المجالي، فيما أدار الفعالية المخرج مصطفى أبو هنود. وقد قرأ المؤلف خلال الأمسية مجموعة مختارة من نصوص الكتاب.
رأى المشاركون في الحفل أن عبدالله عيسى حين يكتب عن القدس، لا يكتب عنها بوصفها مدينةً فقط، بل كجسدٍ حي ينبض بالتاريخ، ويتلوى بالوجع، ويصمد كأُسطورة. وفي كتابه "أورساليم القدس 2000، لا نجد سردا لتواريخ ومعارك فقط، بل نواجه نصا يتقاطع فيه الشعر بالتأمل، والحقيقة بالرمز، والمأساة بالبطولة.
وهذا الكتاب لا يعد وثيقة سياسية، ولا ديوانا فحسب، بل هو صرخة ذاكرة، ومشروع حماية للهوية، ورفض مستمر لنسيان البلاد. فيه تتحول اللغة إلى مقاومة، والقصيدة إلى ساحة مواجهة، والكلمة إلى حجر يُلقى في وجه النسيان.
قال الشاعر يوسف عبدالعزيز، إن عبدالله عيسى يتناول في هذا الكتاب محطات مهمة من نضال الشعب الفلسطيني في العصر الحديث؛ بدءا من الانتفاضة الأولى أواخر ثمانينيات القرن الماضي، ومرورا بانتفاضة الأقصى عام 2000، التي شكلت لحظة مفصلية، وصولا إلى التتابع المستمر للمقاومة على مدار السنوات اللاحقة.
ورأى عبد العزيز، أن عيسى يتحدث في الكتاب عن القدس، وعن تاريخها الضارب في القدم؛ حيث بناها الكنعانيون الأوائل تحت إشراف كاهنها ملكي صادق في الألف الثالثة قبل الميلاد، وهو نفسه من استقبل فيها النبي إبراهيم عليه السلام.
وأشار إلى أن المؤلف يستعرض في كتابه محطات من الاحتلال المتلاحقة للمدينة، بداية من احتلال القدس الغربية عام 1948، ثم القدس الشرقية في عام 1967، حين دخلها الجيش الصهيوني ورفع العلم الإسرائيلي فوق قبة الصخرة المشرفة. ويستذكر لحظة متخمة بالرمزية حين تقدم قائد جيش الاحتلال، "عوزي نركيس"، إلى حائط البراق، ونفخ بالبوق، مخاطبا جنوده: "أخاطبكم من حائط المبكى، آخر أثر لهيكلنا، هذا اليوم طالما حلمناه".
كما ينقل المؤلف، وفق عبد العزيز، شعور وزير الحرب الصهيوني آنذاك، موشي دايان، الذي قال: "هذه اللحظة تتعدى في أهميتها قيام إسرائيل"، كما تناول مواضيع كثيرة ومتعددة، تمس جوهر القضية الفلسطينية ونضال الشعب الفلسطيني المتواصل. وذلك من خلال حوار مفتوح يُقيمه مع الناس، ومن خلال أسئلة جوهرية يطرحها عليهم، لا ليثير الحيرة، بل ليفتح باب الوعي والتأمل.
وقال عبد العزيز أن عيسى يسعى من وراء هذا الحوار، إلى الوصول بالناس إلى بر الأمان؛ الذي لا يعني، في سياق النضال، شيئًا أكثر من الثبات في ميادين المجابهة، والتمسك بالأمل، والإصرار على تحقيق النصر، ولو طال الزمن.
ومن بين المواضيع، التي تناول عيسى في كتابه الحلول المطروحة لحل القضية الفلسطينية، والتي يراها طرقا احتيالية تمارسها المنظمات الأممية، برعاية أميركية، تهدف في جوهرها إلى سلب حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة في وطنه.
ويطرح أيضا حوارا داخليا حول فكرة "السلام"، متسائلا عن جدواها في ظل رفض الكيان الصهيوني لها من الأساس، إذ إن مشروعه الحقيقي هو الاستيلاء على الأرض وطرد السكان، ومن هنا، يؤكد الشاعر أهمية خوض المواجهة مع هذا العدو، وضرورة عدم مهادنته أو الركون إليه.
وفي أحد نصوصه، يقول عيسى: "فلن ننقاد على إيقاع جنازير البلدوزر، من إنهاء الصراع، إلى التوصل إلى معاهدة عدم اعتداء، مُلحقة بها اتفاقات طويلة الأجل، تُعلق القدس، واللاجئين، والحدود، على حبال الريح، إلى أمد لا يعلمه إلا الله تعالى".
وأشار عبد العزيز إلى أن المؤلف لا يغفل عن التطرق إلى موقف المثقفين العرب من القضية الفلسطينية؛ فيمتدح أولئك الذين اصطفوا إلى جانب المقاومة، وكتبوا من موقع الانتماء والحق، فيما يُعري المواقف الهابطة لبعضهم، أولئك الذين باعوا أقلامهم أو التزموا الصمت في حضرة الجريمة.
ورأى أن عيسى يتوقف عند المخيم، لا بوصفه مجرد محطة لجوء، بل باعتباره مرحلة مؤقتة في طريق العودة إلى الوطن، وحيزا رمزيا تُعاد فيه صياغة الهوية والانتماء. وفي أحد نصوصه، يقول عيسى: "قابلية وخصوصية استثنائية، تسويك إنسانا مبدعا، لمجرد إقامتك الدائمة في ذاكرات وحيوات أهل المخيم، وفي أحلامهم التي تذهب بكَ إلى غدٍ، يمضي إلى غده في الذاكرة، تصبح أنت وطنًا، والوطن أنت".
في هذا المقطع الشعري، يُعري الشاعر صورة الجندي الصهيوني، ذلك الذي لا يتقن في حياته الهمجية شيئًا سوى القتل، بوصفه فعله الوحيد، المستمد من أساطير توراتية وخرافات دينية، وبعد أن رسم الشاعر هذه الصورة القاتمة للجندي الصهيوني، ذلك القاتل الغارق في دمه وأساطيره، والضحايا الذين سُفكت دماؤهم على يد همجيته، ينتقل في المقطع السردي التالي إلى جمهور الانتفاضة، ليفتح معهم حوارًا صريحًا حول هذا العدو، وحول كيفية مجابهته والانتصار عليه.
فيقول: "لكن الانتفاضات، الأمهات، الكُبريات، المتلاحقات، الممتدات فينا حتى نهايات الأرض، قادت الخرافةَ العابرة، العدوة، لترتطم قسرا بخرافة دولتها، المقامة على أرضنا قسرًا: (أرض بلا شعب، وشعب بلا أرض)"، ثم يواصل: "ومكنت لنا بنا انتفاضتنا، خاتمة ثمانينات القرن العشرين، خلع قلنسوة القداسة عن هذه الخرافة الزائفة".
من جانبه قال الدكتور حسن المجالي: إن عيسى غاص عميقا في تراجيديا كونية اسمها "فلسطين"، وحلق عاليا في فضاءات الإبداع، مؤمنا بأن الالتزام لا يُبرر الابتذال، وبأن المبدع الحقيقي، الذي يُدافع عن قيم الحق والعدل والحرية، لا يُهادن ولا يُجامل، لأنه لا يتنازل عن قيم الجمال التي تحرر النص من آفات السطحية وسذاجة التناول، ومن خصوصية المناسبة وضحالة الفكرة وحدود الجغرافيا وترف الكلام.
وأضاف المجالي، أن عيسى لا يكتب عن "فلسطين القضية" من موقع الباحث المتذوق أو المُولَع بالجمال، بقدر ما يكتب في مواجهة الإلغاء ومقاومة المحو. وقد أعلن غير مرة أن القصيدة، بالنسبة إليه، ليست رغبة في الجمال بل في البقاء. ولذلك، فهو يتدرع باللغة، ويؤكد أن المثقف الحقيقي لا يُساوم على الحرف، وأن الكلمة هي آخر حصون الحق.
ويصر على أن يجعل من كل ما يكتب مهرجانا لأمكنة حميمة لا تشيخ، يُعيد خلقها عبر حنين ثقيل، هو -بحسب تعبيره– كل ما تبقى له من البلاد. ولأنه لا يمكن جعل المكان شعريًا من دون تجربة شعورية حميمة وعلاقة وجدانية، فإن مبدعنا يبني عبر اللغة صورة الوطن الذي يتعرض للتهشيم والتهميش، ويجعل من القصيدة خزانًا لذاكرته الهائلة، ذاكرة فلسطين، تلك التي يعبث بها النقيض التاريخي، ويتسلى بها "الإخوة الأعداء".
ولذا، يُصرح قائلًا: "كل بيت في قصيدتي بيت فلسطيني، وكل باب فيها مفتوح على ذاكرة لا تُغلق". إن مشروع عيسى، الممتد عبر عقود والمستمر لعقود بإذن الله، هو مشروع حماية للذاكرة، التي تتعرض للتشويه والمحو والتدليس والتزوير، ومشروع حماية للحلم العربي والفلسطيني الذي يتعرض يوميا للاغتيال، عبر الترويع والتقتيل والتشريد والتجويع، في مشاهد أسطورية تتجاوز كل المجازات، وتُعلن زيف هذا العالم، وعماه، ووقاحته، وابتذاله، وحيوانيته، وصلفه اللامحدود، وسقوطه الأخلاقي المُخيف!
ورأى المجالي إن كتاب عيسى الذي نحتفي به. يبين أن مبدعنا الكبير قد استعار فيه جناحي التحقيق والتخييل. التحقيق، عبر نصوص نثرية توثق للقدس، وتُعري كل زيف، وتكشف محاولات الشذاذ المستمرة في البحث عن أي دليل يبرر أكاذيبهم وادعاءاتهم، ليُقدم من خلالها روايتنا الراسخة في مواجهة خرافتهم.
أما التخييل، فنجده عبر كثافة شعرية تتجاوز الصورة المادية للقدس بوصفها الجغرافي، لِتتحول إلى حالة يتزاوج فيها التاريخي بالأسطوري، والعادي بالمعجز. وتحضر في هذا الفضاء تفاصيل التراجيديا الفلسطينية.
كما يحضر محمد الدرة، مثالًا لا حصرًا، ليسأل عن ذنبه، وهو الذاهب مع أبيه في شارعٍ ظناه آمنًا، يحلمان معًا بحلم بسيط: أن يعيشا مثل كل الناس على أرضهما. لكن الطفل وأباه وُصِما بخطيئة التجول في مرأى الرصاص الطائش، وفي مدى قسوته.
كما يحضر السادة الشهداء بكامل بهائهم، ليرتقوا نجوماً تُضيء سماء أحلامنا. تحضر الأمهات الثكالى، ويتجلى الحزن الفلسطيني النبيل، عبر مشاهد الألم العظيم، عل نهاياتنا العصبية، التي أنهكها العدوان، تعود لتعمل من جديد، بعد أن تعايش معه هذا العالم المأفون، وألفَ فجاجة ما يجري حد البلادة!
في هذا الكتاب، يُقدم عيسى كتابة جديدة يتداخل فيها الشعري بالتاريخي، والتأملي بالتذكر، ليقدم صورةً للقدس، تكون فيها بؤرةً لصراع كوني بين نقيضين: الحق والباطل، الوجود والمحو. صورةٌ تكشف عن ضعفنا القاتل، وتمتحن قدرتنا على البقاء، وذلك عبر لغةٍ مدججة بطاقة شعرية وسردية، تنضح بالألم والغضب، وتشفُ حد التصوف، فتأتي بكامل الضراعة، تتوسل الله:
"تتجول الطلقات بين قلوبنا /ربي !!/اعمها عن عمرنا حتى نراك !!/ ربنا الجبار !!/لا تمهلهم الزمن المؤجل كله/ وأذقهم الكأس التي كادوا لنا/لنظل ظلك/ واحتفظ بحياتنا لنصير أجمل في مرايا غيرنا".
وتأتي مرهفةً حد النزف... تتجلى كالشمس وضوحًا حينًا، لتُصرح بملء الكلام: "لم يكن لنا شأن بتاريخه قبل أن يعبر إلى مكاننا،/ ويدخل في زماننا بالفؤوس الطويلة والمزامير المرطونة../. هو الذي أغلق علينا مكاننا، فأغلقنا عليه الزمان: وحده لن يمضي إلى المستقبل دوننا،/هكذا، كما ولج تاريخنا عنوة، لن يخرج من مستقبلنا نظيفًا من جراحاتنا./سيظل محاصرًا بنا.. مشغولًا بذاكرتنا.. مهزومًا بها".